الحكاية الشعبية

من دائرة المعارف الفلسطينية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الحكاية الشعبية في أبسط مفاهيمها هي: القصة السائرة في المجتمع، ‏والتي لم تدون في كتب، ونقلت مشافهة، ولم يعرف قائلها الأول(1) وهي في ‏الأصل مجموعة من الأخبار تتصل بتجارب الإنسانية منذ القدم واتصالها ‏بهذه التجارب يعني أنها وجدت حيث ومنذ وجد الإنسان(2) ويجوز لنا الاعتقاد ‏بأن الحكاية الشعبية نشأت أولاً على أيدي رواة متأدبين، ثم أهملتها الطبقات ‏الخاصة، إلا أن العامة تلقفتها واحتفظت بها بعد أن هضمتها، ومنحتها طابعها ‏الشعبي فاستقرت هذه الحكايات في الحياة الشعبية، ومما يشجع على هذا ‏الاعتقاد أن الحكاية الشعبية ما هي إلا رافد من روافد الذهنية الشعبية التي ‏أبدعت المرويات القولية، والفنون اليدوية الشعبية، وهذه جميعاً تنطبق عليها ‏فرضية أن ما تتخلى عنه الطبقات المثقفة، تتلقفه الطبقات الشعبية وأوضح ما ‏يكون ذلك في ميدان الأزياء الشعبية(3).‏

إن الحكاية الشعبية من هذه المنطلقات تعني سيرة بطل، عبر ‏الأحداث، يحملها مشافهة الراوي، أو القاص، أو الإخباري، وقد حوت جعبة ‏الإخباريين في مختلف العصور العربية، صوراً من سير الأبطال، وحوادثهم، ‏ونقلها الإخباريون على شكل قصص شعبية مثيرة للعامة، بأساليب مشوقة، ‏عكست الحياة الاجتماعية العربية، ومثلت نفسية الأمة العربية، ومما يدل على ‏وعي مبكر في تقويم الخرافات والأساطير الشعبية أن ابن خلكان (يروي)، أن ‏الخزرجي ادعى إرضاع الجن، وزعم لهارون الرشيد، أنه بايع الجن لولي ‏عهده، فقربه (الرشيد)، وكان الخزرجي يضع على الجن والشياطين والسعالي، ‏أشعاراً حساناً فقال له الرشيد: "إن كنت قد رأيت ما ذكرت فقد رأيت شيئاً عجباً، ‏وإن كنت ما رأيته فقد وضعت أدباً"(4).‏ ‏ ولعل من نافلة القول، أن ندرك أن الحكاية الشعبية ليست مقصورة ‏على الأمة العربية دون غيرها من الأمم، فالقصص الشعبية توجد في جميع ‏المجتمعات البشرية، مع أن درجة الانتشار والتداول تختلف من مجتمع لآخر، ‏وحتى داخل المجتمع نفسه، وتنشأ هذه الحكايات من تكامل ثقافة المجتمع عبر حقبه التاريخية المختلفة، لتلبي احتياجات نفسية، ‏وعاطفية، وهذه الاحتياجات موروثة في الطبيعة البشرية، ولكن شدتها تتراوح ‏تبعاً للتغيرات في الأحوال الاجتماعية، والمادية التي تمس قدرة النظام ‏الاجتماعي على تلبية احتياجات أفراده الطبيعية، والاجتماعية والنفسية ‏والعاطفية ويبدو أن الأقاصيص أكثر استجابة من بقية الأشكال الأدبية لهذه ‏التغيرات(5).‏

فالحكاية الشعبية إذن نسيج يحيكه البطل بفاعليته، وما يواجه تلك ‏الفاعلية من عوامل مساعدة أو معوقة(6) عبر حقبة تاريخية، ثم ينتقل هذا ‏النسيج مشافهة لجيل حقبة تاريخية تالية، مع ما يسود هذا النقل من تحريف، ‏أو تبديل، أو تغيير، مع الاحتفاظ على خط سير البطل من البداية للنهاية. ‏ويستمر النقل لأجيال تالية، ليصبح البطل، كأنه مادة كيماوية في مختبر، ‏يجرب عليه كافة المؤثرات التي تنضج تجربته، وتصنع منه المثل.. وغير هذه ‏الامتدادات التاريخية القصصية، تصور الحكاية أسس البناء الثقافي، ‏والاجتماعي، والاقتصادي، والنفسي، والبيئي، للبطل ومواطنيه عبر الحقب ‏التي عاشوها.‏

لذلك نجد في القصص الشعبية –اليوم- أكداساً من تراث الأجيال ‏المتعاقبة، والعصور الحضارية المختلفة"، وليس عجيباً أن نجد فيها رواسب ‏الوثنية والسحر، والمردة، والشياطين، والرقى، والشعوذات إلى جانب الملائكة ‏والأنبياء والصديقين، وأبطال العصور المتأخرة(7). وهكذا التقت أذواق ‏العصور المختلفة من تاريخنا حول تعبير قصصي شعبي، إننا نجد الإنسانية ‏وقد تجلت على سجيتها وعلى طبيعتها الفطرية مكشوفة في تلك الألوان ‏المختلفة لذلك التراث الشعبي القصصي، حيث تبدو هناك بكل غرائزها، ‏ونزعاتها، وكل معتقداتها ومقدساتها، وتصوراتها وأوهامها عن الكون والحياة.‏

يعتبر علماء التراث، أن الفنون القولية، هي موقع القلب من التراث، والحكاية ‏الشعبية هي رأس الفنون القولية، لما لها من ميزات، الأثر والتأثير في المتلقى، ‏وطريقة السرد والوصف، التي تكشف كنه النفس البشرية في أوضح صورها، ‏كذلك فإن فاعلية البطل عبر الحدث، تعكس صراع الإنسان مع واقعه، وتفاعله ‏مع هذا الواقع، وهذا يفيد في الدراسات الأنثروبولوجية، والاجتماعية، ‏والاقتصادية لتلك الحقب التاريخية التي عاشها البطل.‏

وللحكاية الشعبية مدى تعبيري غير اعتيادي، لأن الحكاية تشترك مع ‏الفنون الشعبية الأخرى، في حقيقة كونها عملاً وتكويناً إبداعياً فذاً قادراً على ‏تشكيل صورة مرئية خيالية.‏

فالقصة تشارك المسرح، لأن المسرح ما هو إلا قصة، أو قصة ‏ممسرحة، والحكاية تتفاعل مع الرقص، في القدرة على الإيحاء بالحركة، ‏وتشارك الموسيقى في قدرتها على الإبداع الإيحائي والجمالي، من خلال القدرة ‏على التأليف في إطار الإيقاع المتناغم(7)، من هنا تتضح لنا مركزية الحكاية ‏في الأدب الشعبي، لما لها من مشاركة وتفاعل وتأثير في باقي الفنون القولية ‏خاصة، وفي فروع التراث المختلفة عامة.‏

أنواع الحكاية الشعبية

اختلفت وجهة نظر باحثي الحكاية الشعبية حول أنواعها، وأقسامها، ‏وكان هذا الاختلاف نتيجة اختلافهم في المحاور التي انطلقوا منها لتقسيم ‏الحكاية، فمنهم من اعتمد مسألة طول الحكاية وقسمها تبعاً لطولها، وآخرون ‏اعتمدوا وظيفة الحكاية في المجتمع، وقسم ثالث اعتمد مقدار الواقعية والخيالية ‏في الحكاية، ومهما اختلفت وجهات النظر هذه، إلا أنها ليست مشتتة بقدر ما ‏تلقي الضوء على تاريخ الحكاية، ووظيفتها، وتفاعل الأجيال مع موروثهم ‏الشعبي. ففي دراسته للبطل في الحكاية الشعبية يحدد "علي الخليلي"(8) ثلاثة ‏أنماط من الحكايات:‏ أ- الحكاية الأسطورية: وهي الحكاية التي تدور حول الآلهة، والأحداث ‏الخارقة، وتشرح بمنطق العقل البدائي ظواهر الكون والطبيعة، والعادات ‏الاجتماعية، ولنتأمل هذه الحكاية الملخصة التي تمثل أسطورة نشأة القرد.‏

يحكي: "أن امرأة كانت تخبز، وحولها طفلها يلهو، ويلعب، فغاط الولد ‏على ملابسه، فكرت المرأة بطريقة تنظف بها ولدها، ولم يكن بحوزتها ماء، ‏فأنزلت الآلهة لها، مناديل جميلة من السماء، أعجبت هذه المناديل المرأة، ‏فاحتفظت بها، وأخذت قطعة من الخبر، وبدأت تنظف بها "غائط الولد"، فما ‏كان من الآلهة إلا أن غضبت عليها، فمسختها قردة، ومسخت ابنها قرداً ‏أيضاً.‏

ب- الخرافة: حكاية تقصد أي مغزى أخلاقي، من خلال أشخاص، ‏غالباً ما يكونون وحوشاً أو جمادات. مثل قصة (إجبينة) .. ومناجاتها ‏للطيور:-‏

يا طيـور طايــرة يا مية(1) يا ســايرة(2)‏

سلمي ع(3) أمي وبوي(4)‏ وقوليلهم(5) إجبينه راعية

ترعى غنم، ترعى بقر وتقيل(6) تحت الداليـة(7)‏

وتروح هذه الطيور، وهذه المياه، وتسلم على والدي الست (إجبينه)، ‏وتعلمهم بحالها. في هذه الحكايات يتمثل الشجر، والحجر، والحيوان، والجماد، ‏بطلاً في مقدوره أن يقوم بجميع مهام البطل الإنساني.‏

ج- الحكاية الشعبية: حكاية تتمحور حول الإنسان الشعبي، وتستخدم ‏في محاورها، ما يفيدها من عناصر أسطورية، وخرافية، ثم تتطور هذه الحكاية، ‏فتنبذ كل ما له صلة بالأساطير والخرافات، لتتجذر حول هموم الإنسان ‏مباشرة.‏

ولعل حكاية "شيخ جمزو" مثل للحكاية الشعبية: فملخص القصة يدور ‏حول شيخ ظالم غاشم، يأخذ أتاوات من فلاحي قريته، حضرته الوفاة، فجمع ‏أهل البلدة، وطلب منهم أن يسامحوه عما بدر منه، ففعلوا، وطلب منهم أن ‏يربطوه بحمار، ويجروه في كل أركان القرية، وذلك تكفيراً لمعاملته السيئة ‏لهم.. غادر الرجال، وبعد مغادرتهم، طلب من زوجته أن تذهب وتحضر ‏‏(الجندرمة) التركية، حال وفاته، وجرجرته في البلدة.. وهكذا كان.. مات ‏الرجل، وربطه الفلاحون بحمار، وإذ بالجندرمة التركية تطوقهم بعد إعلام ‏زوجته لهم.. ويكيلون للفلاحين صنوف الأذى، والتعذيب، والتنكيل، والسجن.. ‏وهكذا أساء الشيخ لبني بلده حياً وميتاً..‏

أما الباحث نبيل علقم(9) فيقسمها إلى حكايات:‏ ‏-‏ خرافية خيالية: وهي التي تخرج أحداثها عن حد المعقولية، ‏وتجافي منطق الأشياء، حتى لو كانت حدثت بالفعل.‏

‏-‏ حكاية هزلية: وهي حكاية المرح، والتسلية، والإمتاع.‏

‏-‏ حكايات الأولياء والقديسين: حكايات يكون أبطالها من ‏الأولياء، أو يكون هؤلاء الأولياء عوامل مساعدة لإنقاذ البطل من ورطته، ‏أو حل مشاكله.‏

‏-‏ حكاية الواقع السياسي والاجتماعي: وهي الحكاية التي تعكس ‏الواقع السياسي لفترة حياة البطل، وتعكس سمات المجتمع الاجتماعية ‏مثل: التقاليد والعادات والمعايير..‏

ويربط "توفيق زيّاد" في دراسته صور من الأدب الشعبي الفلسطيني(10) ‏أنواع الحكايات الشعبية بوظيفة تصويرها لكفاح الأمة العربية ضد المحتلين، ‏الأتراك، والإنجليز، والصهاينة، كذلك يرى أن هناك أنواعاً من الحكاية تصور ‏الكفاح للتحرر من العبودية الاجتماعية، المتمثلة بعبودية الأغنياء ‏والإقطاعيين والمالكين وصراعهم مع سواد الشعب والفلاحين.‏

وهناك قصص ذات إطار سياسي، ومضمون وطني مثل (قصة ‏ممدوح وميثا)، التي تصور خلال قصة حب، كفاح جيل عربي ضد العبودية ‏التركية، وقصة (محمد الملحم) التي تصور كفاح الشعب العربي السوري ضد ‏الفرنسيين، وقصة (حسين العلي) التي تصور كفاح الشعب العربي الفلسطيني ‏ضد الاستعمار الإنجليزي.. ويجمل (زيّاد) قوله: إن تراثنا الشعبي الفلكلوري، ‏غني وزاخر، بقدر ما هو غني وزاخر، كفاح شعبنا على مر العصور ‏والأحقاب، وأبطال هذا الادب المختلفون هم وجوه متعددة للبطل الاساسي –‏الشعب كمجموع . اما من حيث الطول فتقسم الى : 1- الحدوته : نشأت مع ‏الإنسانية في طفولتها الأولى ، يوم ان كان الإنسان، حيواناً جوالاً يعيش في ‏جماعة قليلة العدد محصورة الأفراد، وعلى هذا الوضع الفطري الساذج، عاشت ‏الحدوتة في بيئة الأطفال، وفي حدود إدراكهم ومستواهم، وهي أقصر أنواع ‏الحكايات.‏

‏1.‏الحكاية: وهي محاكاة الواقع، واسترجاع له، وتزحزحت هذه ‏المحاكاة للإيهام بحدث قديم مرت الدهور عليه، وهذا النوع أطول من ‏الحدوتة.‏

‏2.‏الأسطورة: وهي حكاية الخوارق، وأبطال أنصاف الآلهة، أو ‏الآلهة، وهي أطول من الحكاية.‏

ومهما اختلفت هذه التقسيمات، إلا أنها تعطي مفهوماً واحداً للحكاية، ‏يتمثل في بطل وحدث، تنتقل سيرته مشافهة من جيل للجيل الذي يليه.‏

بنية الحكاية الشعبية

يتطرق الدكتور "عبد اللطيف البرغوثي" إلى بنية الحكاية الشعبية، فيرد ‏هذه البنية إلى نسق واحد، مهما اختلفت نوعية الحكاية، أو تسميتها، ويحلل ‏هذا النسق التقليدي، إلى مكونات ثلاثة هي(11):-‏

أ. البداية.‏ ب. العرض.‏ ج. النهاية.‏

أ- البداية: يلجأ إليها القاص حسبما يراه مناسباً لخدمة أغراضه ‏القصصية، مثل لفت نظر الحضور، إلى أنه سيبدأ حديثه حتى يتهيئوا ‏للاستماع إليه.. ويمكن للحكاية الشعبية أن تأخذ أشكالاً متنوعة من البدايات ‏مثل:‏

القاص: كان يا ما كان، يا سامعين الحكي والكلام، انخرف ولاّ أنام؟..‏

الحضور: إنخرّف.‏

‏-‏ ما يطيب الحديث إلا بالصلاة على النبي.‏

‏-‏ اللهم صلي على سيدنا محمد.‏

القاص: كان هانا خير.‏

الحضور: خير إنشا الله. (إن شاء الله).‏

ب- العرض: وهو مجمل الأحداث، والعقد والمشاكل، التي تصادف ‏البطل، ويجتازها البطل عادة بنجاح.‏

ج- الخاتمة: وهي خاتمة تقليدية أيضاً مثل:-‏ ‏-‏ هذي خريفة الطير عجاج.‏

‏-‏ وطار الطير الله يمسيكم بالخير.‏

‏-‏ رحت وخليتهم ما عدت أريتهم.‏

‏-‏ وهذي خريفتي وعلى فلان بدالها..‏

ويلاحظ أن هذه البدايات والنهايات التقليدية ليست في صلب بناء ‏الحكاية، بدليل أننا نستطيع حذفها بسهولة دون أن تتأثر الحكاية بشيء، بل ‏نحن في الواقع نحس بوجوب حذفها، حتى نتفادى ما قد يحدثه تكرارها في ‏الجلسة الواحدة من ملل ثقيل، كذلك فإن القاص لا يستخدمها إلا في الحكاية ‏الأولى إذا كان سيسرد أكثر من حكاية في الجلسة الواحدة، وبناءً على ما تقدم ‏فإن هذه الأنماط لا يجوز أن تعتبر بدايات ونهايات حقيقية للحكاية، وإنما هي ‏بدايات ونهايات شكلية ظاهرية، غايتها فقط إدخال الجمهور إلى جو الحكاية ‏أو إخراجهم منه.‏

ويبرر "علي الخليلي" هذه البدايات بتعلق الناس بالدين، ونتيجة ‏لعقيدتهم الإسلامية بشكل عام(12).. يقول الخليلي: "في هذه البدايات، يتكرس ‏الدين مهما كانت الحكاية، بل إن الراوي يرفض ويخاف ربه، إن نطق بكلمة ‏واحدة دون الصلاة على النبي، واستجابة السامعين لهذه الصلاة، وهذه البداية ‏لا تشذ عن السائد مكتوباً كان أم محكياً، كما يمكن أن نلاحظه في افتتاحيات ‏الكتب المدرسة والتقليدية مثل: "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على ‏أشرف المرسلين"، وكما هو في كل أناشيد تغريبة بني هلال، كحكاية شعبية ‏مكتوبة، ومحكية، "أول ما نبدى نصلي ع النبي..".‏ هذا عن البداية والنهاية التقليديتين، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه في ‏هذا المقام: ما هما البداية والنهاية الأصليتان؟ أو الحقيقيتان؟ وكيف تنطلق ‏الرواية من بداية لتمر في حبكة أو عقدة، أو عرض وتختتم بنهاية أو خاتمة.‏

بداية تتحدث الحكاية عن بطل، إنسان عادي، وأحياناً اقل من العادي، ‏وعند وضع هذا البطل على مسرح العرض، فإنه يواجه تحديات متعددة، ‏وصراعات مختلفة، تتمثل هذه التحديات، في مواجهة البطل مع العوامل ‏البيئية، كالبرد الشديد، أو قطع البحور، أو قد يواجه أصحاب قوة وسلطان ‏كالملوك مثلاً، والجبارين، ويمكن أن تبالغ الحكاية فتذهب إلى (الميتا فيزيق)، ‏وتواجه البطر أشكال وألوان من الجن، والغيلان، والسعالي، والمردة، ‏والشياطين. وهذه المواجهة تأخذ شكل الصراع بين قوتين: قوة بطل القصة، ‏والقوة الأخرى المعاكسة، وتميل معظم الحكايات الشعبية إلى جعل قوتين ‏متصارعتين معاً في وقت واحد، قبل أن ينتقل البطل إلى مشهد آخر.. وفي ‏النهاية يميل حل الصراع لصالح البطل غالباً، وهو الطرف الذي خلق ‏الأسطورة، أو الوسط الذي أوجدها، وفي هذا الحال يكون الحل أشبه بتحقيق ‏أمنية. وحتى في النهاية المأساوية نجد أنها تكون ممزوجة بدعابة سوداء ‏ساخرة لتفريج هم السامع، والتنفيس عنه(13).‏

فلو أخذنا مثلاً حكاية (نص انصيص)، نجده إنساناً معاقاً (نصف ‏إنسان)، يحترم والده أخوته ويدللهم ويعطيهم أسلحة للصيد، بينما يحتقره والده ‏نتيجة إعاقته، يصبح أخوته فرساناً على ظهور خيول مطهمة لا تأكل إلا ‏الشعير المنقى، بينما يركب (نص انصيص) ماعزاً جرباء، يطعمها نخالة.. ‏ويثبت البطل (نص انصيص) كفاءته في الصيد، وفي صراعه مع الغولة التي ‏همّت بالتهام أخوته.. ويقتل الغول، بدهائه وحكمته، ويحرقها، ويحتل منازلها ‏وثرواتها.‏

إن بطل هذه الحكاية المعاق، استطاع أن يقوم بأدوار كثيرة خطيرة، ‏فشل أخوته الأصحاء، وبدعم كل قيم ومعايير المجتمع لهم –القيام بها، وحقق ‏النجاح، له، ولأسرته، وانتصر على الشر، فأعاد الناس احترامهم له، واستطاع ‏‏(نص انصيص) أن يثبت ذاته ويحققها، كما فعل عنترة بن شداد في سيرته.. ‏فما عنترة بن شداد إلا (نص انصيص)، ناضل ضد التمييز القائم على اللون، ‏ونجح، وحقق ذاته.‏

الحكاية الشعبية كنظام

النظام: هو الكل المكون من عناصر متعددة، لكل عنصر من هذه ‏العناصر سماته الذاتية، وترتبط هذه العناصر ببعضها في علاقات شبكية ‏متبادلة، وتتفاعل هذه العناصر مع بعضها لإنتاج مهمة أو وظيفة معينة..‏

ويتكون النظام من:‏ ‏1.‏ مدخلات: وهي العناصر البشرية، والمادية، ‏والبيئية قبل التفاعل.‏

‏2.‏ العمليات: مجمل التفاعلات بين العناصر.‏

‏3.‏ المخرجات: وهي المدخلات بعد مرورها ‏بعمليات التفاعل.‏

إن الحياة التي نعيشها، نظام دقيق، وصور الحياة المختلفة تشكل ‏أنظمة أيضاً، فالحياة الاجتماعية نظام، مدخلاته: الإنسان والقيم، وعملياته: ‏تفاعل الإنسان مع أخيه الإنسان في منظومة القيم. ومخرجاته: إنسان يراعي ‏قيم مجتمعه، ومعاييره. كذلك فإن عملية التعليم والتعلم نظام أيضاً. عماده: ‏الطالب قبل تحقيق أهداف التربية. وعملياته: الدرس والتعليم والتعلم، ‏ومخرجاته: الطالب وقد تحققت الأهداف التعليمية التعلمية فيه.‏

انطلاقاً من مفهومنا للنظام، وهذه الأمثلة المختلفة، هل نستطيع أن ‏نعتبر الحكاية الشعبية نموذجاً لنظام؟ لنتأمل ثانية حكاية (نص انصيص)، ‏ونحاول تحليلها إلى عناصرها الأولية:‏

‏1.‏ بطل معاق، أب يقسو على البطل، يدلل اخوته، معايير ‏اجتماعية لا تحترم المعاق.‏

‏2.‏ ‏(نص انصيص) ينجح في الصيد بينما يفشل أخوته، يغتال ‏الغول.‏

‏3.‏ يحصل على مكاسب مادية باستيلائه على ثروة الغول، ‏ويحقق ذاته اجتماعياً، ويحترمه الآخرون.‏

بكل بساطة نستطيع القول أن البند الأول يمثل مدخلات النظام، والثاني ‏يمثل العمليات، والبند الثالث ما هو إلا مخرجات النظام. ولو استقرأنا حكاية ‏‏(ست اليدب)، نرى نظاماً آخر: بنت فقيرة، تتزوج ثريا، يخطف الغول كل ‏أسرتها، وولديها، ويهجرها زوجها ويحاول أن يتزوج بأخرى غيرها. بعدها تنجح ‏في استعادة ولديها، وأسرتها وفي استعادة زوجها لها.‏

إن النظام في الحكاية الشعبية مكون من عناصر محددة، بينها ‏علاقات متفاعلة، ونتيجة لهذا التفاعل تكون الوظيفة أو مهمة الحكاية، ‏كتحقيق الذات في حكاية (نص انصيص). من هنا نجد أن البطل في الحكاية ‏‏(قبل مرحلة العبور)، -العبور هنا هو انتقال البطل من حال لآخر-، هو أهم ‏مدخلات النظام، والبطل الذي اجتاز المرحلة وحقق الفوز، أهم المخرجات.‏

إن النظر للحكاية الشعبية كنظام، يقود لتحليلها إلى عناصرها، ‏وجزئياتها الأولية، مما يمكن من إلقاء الضوء عليها، ووضعها تحت المجهر ‏النقدي، لاستخلاص ما تعكسه الحكاية من أنواع حياة ثقافية، واقتصادية، ‏واجتماعية، سادت وتطورت عبر الحقب التاريخية.‏

عناصر الحكاية الشعبية

أ- البطل البطل في الحكاية الشعبية عصب الحكاية، هذا ما يقرره غسان ‏الحسن في دراسته عن الحكاية(14)، ذلك لأن البطل، هو الذي يقرر امتداد ‏الأحداث، فالحدث فيها تابع للبطل، وليس البطل تابعاً للحدث، فموضوع ‏الحكاية هو البطل أولا وأخيراً، وامتداد الحكاية لا يتقرر بحدث معين حتى ‏ينتهي، وإنما يتقرر بمصير البطل نفسه، ووصوله إلى هدفه.‏ إن البطل في الحكاية، يمكن أن يكون أي شخص في المجتمع، ويمكن ‏أن يكون كل شخص. حيث تتمحور الحكاية حول الإنسان الشعبي، وتستخدم ‏ما يفيدها من عناصر أسطورية وخرافية، ثم تتطور هذه الحكاية فتنبذ كل ما ‏له صلة، بالأساطير والخرافات لتتجذر حول هموم الإنسان مباشرة(15). أما ‏الشاعر "توفيق زيّاد" فيربط البطل بكفاح الشعب على مر العصور، ويرى أن ‏الوجوه المختلفة للأبطال ما هي إلا صورة البطل الأساسي، الشعب ‏كمجموع(16).‏

إن مهمة البطل الشعبي هي الكشف عن الطريق المؤدي إلى ‏النجاح وإن كان وعراً.. وتقتضي مهمته هذه أن يأتي بالخوارق والمعجزات، ‏أحياناً وبأشياء غير عادية، أو مألوفة، فهو ساحر بكلماته، وأفعاله، بحياته ‏وموته، أما الذين يقفون في وجهه، فإما أن يتغلب عليهم، أو يطيح بأعناق ‏قاتليه حتى ولو بطريقة ما، بعد مماته.‏

إن البطل هو المحور الذي تدور حوله الحكاية، وتبعاً لهذه ‏الأهمية، فقد أبرزت الحكاية بشكل جلي:‏

‏1.‏ ميلاد البطل: أظهرت الحكاية تميزه في ولادته ففي محاضرات ‏الأدباء(17) "النيروز هو يوم ولد كيومرث بن هبة الله بن آدم، لأن الجدران ‏اخضرت لمولده، وأثمرت الأشجار لغير أوانها"، وقد تكون ولادة البطل ‏مسبوقة بنذر كما في حكاية (بنات الطرنج) إذ تنذر الأم أن تجري قناة ‏سمن وعسل للناس عامة إذا هي أنجبت، وبالفعل فقد تم لها ما أرادت. وقد ‏يكون الميلاد نتيجة أمنية، كما في (اجبينة)، إذ تمنت الأم أن تلد فتاة ‏بيضاء كقرص الجبن، حينما رأت قرصاً من الجبن.‏

‏2.‏تميز البطل عن غيره من الأنداد: كأن يكون ولداً لامرأة ‏مسكينة، مظلومة مثل (نص انصيص)، وكجعل هذا البطل محط معاملة ‏سيئة واحتقار. ويمكن للحكاية الشعبية أن تميز البطل بأخلاقه الحسنة، ‏وصفاته، وبطولته.‏

‏3.‏الفاعلية ومرحلة بلوغ البطل وشبابه: وهذه أهم مرحلة للبطولة، ‏حيث غالباً ما تدور حبكة الحكاية في مرحلة بلوغ البطل وفاعليته في ‏شبابه. وما الموت في الحكاية الشعبية، على اختلاف أنواعها، إلا النهاية ‏الزمنية، سواء كانت مرحلية أم نهائية، يصل إليها الكائن الحي عند انتهاء ‏الفاعلية. فالفاعلية تعني الحركة والاستمرار، وبالتالي فهي تعني الحياة، ‏فإذا انتهت وصل الإنسان للجمود، الذي هو الموت بعينه.‏

ب- الزمان:‏

كثيراً ما تبدأ الحكاية بعبارة "كان يا ما كان في قديم الزمان"، لا شك ‏أن هذه العبارة مبهمة وعامة، ولا تحدد زماناً بعينه، وهناك حكايات أخرى ‏تفصح عن انتمائها لعصور معينة(18) فحكاية (احديدون) تجيز لنا الاعتقاد، ‏أنها تعود لعصر الحديد. (فاحديدون) تعني تصغير لفظة (حداد)، ومما يؤكد ‏هذا الاعتقاد أن الغولة تخشى من حربة (احديدون) الحديدية. ونلاحظ في ‏الحكاية نفسها أن الغولة عدوة (احديدون) تملك وعاءً للطبخ مصنوعاً من ‏النحاس الأحمر، وهذا يدفع للاعتقاد بأن الغيلان هم نوع من البشر ‏المتوحشين، الذين تخلفوا عن ركب الحضارة، وكانوا ما زالوا في عصر ‏النحاس، في حين كان الإنسان المتمدن الذي ينتمي إليه (احديدون) قد دخل ‏عصر الحديد.‏

وهناك من الحكايات التي نستطيع من خلالها التكهن على اقل تقدير ‏بعصرها ، وذلك من خلال القيم والمعايير التي كانت تسود ذلك العصر ، ‏فحكاية تحكى عن الجواري ، والحريم ، نحكم عليها بالانتماء للعصور ‏الوسطى ، واخرى عن الارض ، والحيوان ، والانسان ، والاستغلال ، ‏نستطيع ان نرجعها لعصر الاقطاع .. وهكذا ‏الا ان ادق طريقة لمعرفة العصور التي سادت او انبقثقت فيها الحكاية ‏، لا يمكن ان يتم إلا‎ ‎بتحديد (موتيفات) الحكاية،‎ ‎أو‎ ‎أجزائها‎ ‎الأولية،‎ ‎حيث‎ ‎أن‎ ‎كل‎ ‎موتيف‎ ‎يمت‎ ‎لعصر‎ ‎بعينه‎. ‎

فالحكاية كما هو معروف ليست بنت قائلها الأول فحسب.. بل ‏اشتركت في تأليفها الأجيال المتعاقبة عن طريق سردها مشافهة، وأحاط بطريقة ‏السرد هذه كل أشكال التحرف والتغير، والحذف والإضافة، تبعاً لحالة السارد ‏النفسية والعاطفية، وتلبية لحاجات المتلقي النفسية والعاطفية، وذلك بما يتلاءم ‏مع ظروف البيئة المادية والمعنوية. ففي حكاية (ست اليدب) مثلاً: نجد ‏الغول، ثم في (موتيف) آخر نجد شعائر العبادة الإسلامية من صلاة وصوم، ‏بينما في (موتيف) ثالث نجد المدرسة، والأستاذ، والطلبة الأوائل. إن هذه ‏العملية التراكمية للجزيئات، تمثل مراحل حضارية مختلفة، وقيم عصور ‏مختلفة أيضاً، فالحكاية هنا ومن خلال هذه الموتيفات الثلاثة يمكن أن تحدد ‏في ثلاثة عصور:‏

‏1.‏ عصر الأسطورة، حيث كان الغول شخصية واقعية.‏

‏2.‏ عصر الإسلام، وانتشار الحضارة الإسلامية بقيمها ‏ومعاييرها.‏

‏3.‏ عصر متقدم أكثر –ربما- من زمن الكتّاب، وهو ‏مرحلة الانتقال من مرحلة الكتّاب إلى مرحلة المدرسة في مفهومها ‏الحديث، إن طريقة التحليل هذه، لمعرفة زمان الحكاية، هي أصدق ‏طريقة تتطابق مع مفهوم الحكاية، وسمتي الانتشار والتداول وبنية ‏الحكاية.‏

ج- المكان:‏

يمكن أن يكون:-‏

‏1.‏ مبهماً وعاماً، لا ذكر له في بداية الحكاية.‏

‏2.‏ قد يذكر بشكل مسطح مثل: "من هان لها(1)، بقي هالزلمي(2)، ‏مجوّز(3) هالمرة(4) وحالته بالويل(5). راح عند ملك الصين…….."‏

‏3.‏ قد لا يذكر مكان بداية الحكاية، ولكن تذكر أمكنة أخرى، قام ‏بها البطل بتفاعلات معينة مثل رحيل البطل من مكان البداية غير ‏المذكور إلى بدل معين…‏

ولما كانت الحكاية الشعبية حكاية بطل أولاً وأخيراً، وحركة هذا البطل ‏هي موضوع الحكاية، لم يأبه السارد ولا المتلقي بمسألة المكان، إلا من تلك ‏الزاوية التي يكون المكان فيها دخل في تحديد حركة وتفاعل البطل.‏

فالبطل يقطع الفيافي والمسافات، ولا تذكر أية محطة له كمكان محدد، ‏في هذا المسير، لأن طول المسافات هذا لا يحدد حدثاً للبطل.. في المقابل قد ‏ينام هذا البطل في "كهف"، وتسهب الحكاية أو السارد في وصف هذا الكهف، ‏ذلك للدور البيئي الذي يقوم به هذا الكهف، في صراع البطل، ويأتي وصف ‏المكان، من بيئة السارد والمتلقي، أي أن السارد، يسقط سمات مكانه، أو مكان ‏المتلقي على مكان الحكاية، لأن السارد –ضمن ثقافته- لا يفهم إلا الأمكنة ‏التي يعرفها، كذلك فإن استجابة المتلقي النفسية والعاطفية تكون أكثر للمكان ‏الذي يعرفه، وأولى هذه الأمكنة التي يعرفها، هو بيئته، ومكان سكناه..‏

د- الحدث:‏

ما يقوم به البطل، وما يتوجب عليه القيام به، إن هذا العنصر هو ‏الذي يعكس صورة البطل في الحكاية، وهو أداة التغيير أيضاً، فلانتقال البطل ‏من مرحلة لأخرى لا بد من حدث، ولوصول البطل لغاية نهائية، لا بد من ‏مسلسل أحداث، وعنصر الحدث الذي يشكل مجمل الصراع، هو العنصر ‏الذي يشد السامع، ويسهب فيه السارد، لأن السارد والسامع، يحاولان تبني ‏الحدث، وكأنهما هما بطلا القصة، فيسقطان الحدث على نفسيتهما، من هنا ‏نستطيع أن نفهم، تنفس السامعين الصعداء، بعد حدث معين قام به البطل ‏وخرج من ورطته.. وربما سمعنا أو قمنا بالتصفيق لذلك البطل الذي قام بما ‏يتلاءم ولحظات الترقب عندنا كسامعين..‏

والحدث يخضع لنظام السلب والإيجاب(19) فهناك الأحداث الإيجابية ‏‏(الخيرة)، التي تكون نتيجتها لصالح البطل، مثل حجر تكلم وأعلم البطل عن ‏أفعوان تحته، وحذره من النوم بقربه، وأحداث سلبية: نتيجتها ضد البطل، ‏كالأفعوان يلدغ البطل مثلاً. ‏

إن هذا النظام يمكننا من تحديد حوادث السلب، والإيجاب في ‏الحكاية، ويزود الباحث بميزان لتقدير (+)، (-)، وهو ما يؤثر بشكل جازم ‏على النهاية المحتمة للحكاية.. ومن الجدير بالذكر هنا، وبعد تحديد الإيجاب ‏والسلب نستطيع أن نخضع الحكاية للمعادلة الرياضية التالية:‏ مجموع (الأحداث +) - مجموع (الأحداث -) >1، أي مجموع ‏الأحداث الخيرة، والتي هي لصالح البطل يجب أن تكون أكثر من الأحداث ‏السلبية، لتسير القصة نحو نهايتها الملبية لاحتياجات السارد والسامع. أما إذا ‏قلبت هذه المعادلة –ونادراً ما تقلب-، وكانت الأهداف السلبية أكثر من ‏الإيجابية، فإن هذا يعني عدم تمكن البطل من الوصول للنتيجة المرتقبة، ‏وربما عنت موته، وبالتالي نهاية مأساوية للبطل والحكاية.‏

هـ- الخاتمة (النهاية):‏

غالباً ما تكون مخرجات نظام الحكاية، وصول البطل لمبتغاه، وتأتي ‏النهاية بأشكال فوز متنوعة: كقتل البطل لعدو شرير، أو وصوله لسدة حكم، ‏أو زواجه من أميرة أو بنت سلطان، وتأتي هذه النهاية عادة تتويجاً لمسلسل ‏الصراع (العمليات) التي يقوم بها البطل… فبينما يتوتر السارد والسامع أثناء ‏تفاعله مع بطله في مسلسل الصراع، نجده في الخاتمة وقد تقلص توتره لدرجة ‏الاسترخاء، والغبطة والراحة. وزيادة في الراحة النفسية والغبطة، قد تأتي ‏الخاتمة، بأكثر مما يتوقع السامع، ممزوجة بعنصر التشويق. ففي الحكاية ‏الشعبية وعندما ينقذ البطل فتاة ما، من مشكلة، فإن النتيجة الحتمية تكون، ‏بتزويج البطل لهذه الفتاة، مكافأة له، وتعزيزاً لموقفه، وقد تأخذ هذه النهاية ‏منحى آخر، لنتأمل نهاية حكاية (بنت اللّي لابسها الجن)، يقول: والد الفتاة ‏للبطل: "البنت اللّي أنقذتها أجتك(20)"*، البطل: مشكور يا عم، بس أنا ‏خاويتها*، قال: أجتك أختها.. فالخاتمة هنا أكبر من توقع السامع، وتعطيه ‏المزيد من الراحة، وهي لا تقتصر على الظفر بالفتاة الناجية، وإنما بمخاواتها، ‏والزواج من أختها.‏

خصائص البناء الفني للحكاية

يتسم البناء الفني للحكاية الشعبية بعدة خصائص، تميزه عن غيره من ‏فروع الأدب الشعبي ومن هذا الخصائص(21):‏

‏1.‏ عدم الولوج في التفصيلات: تميل الحكاية الشعبية عموماً ‏للاختصار في كل عناصرها، فهي تستبعد التفصيلات غير اللازمة، ولا ‏تذكر إلا ما كان ضرورياً لفهم الأحداث، ومتابعة خط سير البطل. فإذا ‏حددت بطلاً لحوادثها فإنها تحدده باسمه (الشاطر محمد مثلاً)، أو صفته، ‏‏(نص انصيص) أو مهنته (كالصياد)، ولا تتدخل الحكاية من قريب أو ‏بعيد، في تحديد قسمات البطل مثلاً، من وصف لوجهه أو عينيه أو ‏سمنته، وكأنها بهذه الخاصية تهتم بالحدث، والفاعلية وليس برسم ‏الشخصية بكل دقائقها..‏

إن هذا الاختصار لا ينسحب على شخص البطل فحسب، بل ينعكس ‏أيضاً على الأحداث الهامشية لنتأمل هذا المقطع من حكاية (زقزق رقص):- ‏‏"… أجوز بنت الراعي، ولدت، جابت ولد، نسوانه اللّي في الأول خبيّن الولد، ‏وقلن له جابت كلب، راح طحاها، بعدين الولد طحينه النسوان هذولاك في ‏صندوق ورمينه في البحر.."‏

أن هذا المقطع قد أشار إلى جملة من الأحداث المتتالية، وكل ‏حدث قاد للذي يليه، بشكل تقريري مختصر، وكأن السارد، يذكر هذه الأحداث ‏في عجالة من أمره، ليصل إلى نقطة مركزية، ينطلق منها، ويكون لها أهمية ‏في تحديد مسار القصة… والنقطة المركزية التي أراد أن يصلها السارد في هذا ‏المقطع، ميلاد بطل سجن في قمقم في البحر..‏

‏2.‏ نظام السلب والإيجاب: شرحنا هذا النظام في بند عناصر ‏الحكاية ولاحظنا عند تحليل الحكاية ، أنها تتكون من أحداث يكون نتيجتها ‏في صالح البطل ، وأخرى ضده ، والفرق بين الجزيئات الإيجابية ‏والجزيئات السلبية يؤثر في سير القصة وهدفها النهائي . ‏

‏3.‏ المصادفات المقصودة: تلعب الصدفة في الحكاية الشعبية ، ‏عاملاً مهماً من عوامل الإثارة والتشويق، فحين يقع البطل في ورطة، تثير ‏السامع مشاعرالخوف على مصير البطل، ويكون البطل على مفرق طرق ‏يواجه احتمالات كثيرة، هنا تتدخل الصدفة لتنقذ البطل، وتحله من ورطته، ‏وتحرك الحكاية إلى أحداث أخرى في نفس مسار القصة، وتسبغ الصدفة ‏أيضاً مشاعر الراحة والاطمئنان على السامع.‏ ‏4.‏ الاعتبار الأخير: إذا قام عدة أشخاص بعمل ما، فإن الذي ‏ينجح فيهم هو الأخير، وهو بطل الحكاية. فقد يحاول عدة أشخاص تباعاً ‏الوصول لأميرة –في الحكاية، لكنهم يفشلون ولا يصلها، -أو ينقذها- إلاّ ‏بطل الحكاية، والذي يحاول بعدهم.‏

كيف وظف العرب الحكاية الشعبية؟..‏ اهتم العرب بأيامهم، وقصصهم في الجاهلية، وذكروا الكثير منها في ‏شعرهم –ديوان العرب-، وما أن جاء الإسلام حتى تمعن العرب بالقصص ‏القرآني، وأغنوا تراثهم، وموروثهم الشعبي بأخبار الفتوحات والمغازي.‏

ودخلوا البلدان المفتوحة منتصرين، وكما أثروا في أهل البلاد ‏المفتوحة، فإنهم تأثروا بهم في مناحٍ كثيرة، ولعل الأدب الشعبي أحد هذه ‏المناحي. فأخذوا من الشعوب حكاياتهم، وترجموها، وأضحت أدباً عربياً.. ولعل ‏العصر الذهبي في تداول وتناول الحكايات الشعبية، هو العصر العباسي، ‏وتحديداً عصر "هارون الرشيد"، إذ بلغت الدولة الإسلامية أوج ازدهارها في ‏تلك الفترة، ومما زاد في ثراء هذا الازدهار، ذاك الاختلاط الذي حصل بين ‏العرب وغيرهم من الشعوب، وما أشار إليه د. شكري عيّاد في دراسته في ‏الأدب الشعبي(22) لدور الأصمعي في تداول الحكاية في مجالس "هارون ‏الرشيد" واتهام البعض له في تأليف سيرة عنترة بن شداد، لهو أوضح القرائن ‏التي تظهر ازدهار الأدب الشعبي في العصر العباسي.‏

إن هذه الملاحم التي عرفها العرب ليست تشبه بالضرورة وبالضبط، ‏ما عرف عند الإغريق كملحمتي (هوميروس) المنسوبتين له، بشكل أدق: ‏الإلياذة والأوديسا، أو عند الرومان كملحمة (فرجيل) المعروفة بالإنياذة، أو ‏عند الفرس كملحمة (الفردوسي) المعروفة (بالشاهنامة)، ولكنها ملاحم عربية، ‏ومصنوعة من تقليد العرب، وتراثهم، ومن طبعهم الذي يميل للبديهة ‏والارتجال، ومن نظرتهم إلى أن أدبهم العربي زمن نقل الملاحم وهو العصر ‏العباسي، ليس فوقه أدب أياً كان مصدره. وبالطبع ما يعرضه الدكتور "عمر ‏الساريسي" هنا، لا يتناقض، ولا يتضارب بأي حال من الأحوال مع عوامل ‏الأثر والتأثر، بين الأدب الشعبي العربي وآداب الشعوب الأخرى. وكل ما بينه ‏أن الحكاية الشعبية العربية ليست تقليداً أعمى لشبيهتها الرومانية، أو ‏الفارسية، أو اليونانية(23).‏

ولم يقتصر دور العرب في الحكاية على تناولها وتداولها فقط، بل ‏استطاعوا توظيفها لتخدم كمّاً وافراً من الأهداف والمضامين، سواء في عصر ‏تأليفها، وفيما تلاه من عصور ولهذا استحقت البقاء والخلود، نتيجة هذا الدور ‏الوظيفي.‏

يلخص الساريسي(24) عدداً من هذه المضامين: "وكما أن العرب جعلوا ‏القصة، وعاءً للوعظ الديني، كذلك جعلوها إطاراً للإخبار عن أسمارهم، ‏ونوادرهم، ومجتمعاتهم، وأساطيرهم، وموضوعات التفاخر بين قبائلهم، والتعليم ‏لصغارهم، وعن العشق، والعشاق من شعرائهم، كذلك فإن العرب جعلوا للقصة ‏إطاراً للقصص البطولي، مثل قصة عنترة وقصة سيف بن ذي يزن، وهي ‏ملاحم شعبية أو قصص تتداولها العامة، ولا يأبه لها الخاصة، كذلك فإن ‏القصة تصور لنا الأحداث الجاهلية والإسلامية، وتصف لنا الحياة العربية ‏داخل الجزيرة العربية وخارجها، وقد أريد من تأليفها تثقيف الشعب وتعليمه ‏تاريخه القومي ليتبصر في ثقافته ويتعصب في قوميته.‏

وعن دور الحكاية يقول توفيق زياد(25) إنها تصوير للصراع ‏الحضاري، وصراع الوجود الذي تخوضه الأمة، وتثبت الحكاية –كما هو ‏غيرها من فروع التراث- الهوية الوطنية للشعب، والهوية القومية للامة.‏

أما علي الخليلي(26) فيصور بالحكاية حركة الشعب، ويركز على ‏حركة الشريحة المسحوقة من هذا الشعب (العمال والفلاحين). وبالإضافة لكل ‏هذه الأغراض فإن الدكتور عبد اللطيف البرغوثي(27) يوظف الحكاية في ‏استنباط القيم والمعايير الاجتماعية، والتقاليد من خلال درس الحكاية وتحليلها.‏

بينما نرى د. شريف كناعنة(28) يرى الحكاية وعاء يتسع للمجتمع، ‏فالمجتمع بطل، وزمان، ومكان، وحدث، وتفاعل وبالتالي قضية اجتماعية.‏

إن موضوع توظيف الحكاية الشعبية في المجتمع، بحاجة إلى المزيد ‏من البحث والدرس، والتحليل، لنصل إلى استقراء المجتمع عبر حقبه التاريخية ‏المتعاقبة من خلال حكاياته، ونستنبط المنحى النفسي والعاطفي، والسلوكي، ‏والاجتماعي للشخصية العربية من خلال الحكاية، وما آراء علمائنا التي ‏طرحناها إلا بدايات على هذه الطريق المنهجي العلمي.‏

الشعر في الحكاية الشعبية

‏"لم تفترق القصة عن الشعر في القديم، ولا في الحديث، كان ‏القصّاص شاعراً، وكان الشاعر قصّاصاً في الماضي البعيد والحاضر ‏المشهود. ذلكم هوميروس الملقب "بأبي الشعراء" لم يكن إلا قاصاً تأنس إليه ‏نبوة القصة، كما تأنس نبوة الشعر. ودونكم روائع شكسبير وغوته، وأضرابهما ‏من نوابغ القصاص ،كثير من هذه الروائع يستمد من الاطار الشعري روعته، ‏ورونقه .واخيرا احتفظ لنا الشرق بلقب (الشاعر) يطلق على ذلك القصاص ‏الجوال ،حين تنعقد حوله السوامر ،فينشد قصص البطولة،اشعارا على انغام ‏الربابة ،مصورا فيها شتى المشاعر،من رقةة وعنف ،ومختلف المواقف من ‏هزيمة وانتصار .فالقصة والقصيدة بينهما لحمة،وهما تمتزجان منذ هفت النفس ‏الى التعبير والبيان ،ولم يكن ذلك ليتم الالأن الشاعر والقصاص يهدفان ‏لغرض مشترك، ويمضيان إلى غاية واحدة. كلاهما يلتمس الإفصاح عن ‏العواطف والمشاعر، وكلاهما يعالج تمثيل الاستجابة الوجدانية للحياة(29).‏

إن استخدام الشعر في الحكاية لم يكن نوعاً من الترف، أو التزيين ‏للحكاية، إنما كان موظفاً لتثبيت غايات ومضامين الحكاية. ويلخص غسان ‏الحسن المواقف التي استخدم فيها الشعر في الحكاية على النحو التالي:‏

‏1.‏ اللحظات الوجدانية: إن مزج الموسيقى والعاطفة، له قدرة أكبر ‏على التعبير من طريقة السرد لوحدها، ولنتأمل ما قيل من شعر على لسان ‏‏(اجبينه)، لنرى عواطف (اجبينه) الملتهبة:‏ يا طيور طايرة يا مية* يا سايرة

سلمي ع* أمي وبوي*‏ وقوليلهم* إجبينه راعية

ترعى غنم، ترعى بقر وتقيل* تحت الدالية

إنها رسالة (اجبينه) لوالديها شعراً، وبالتأكيد لها أثر أكبر من قولها نثراً ‏أو سرداً..‏

‏2.‏ الغناء: البطل يقوم بالغناء، أو يتغنى بأمنية، أو أمل، لنتأمل ‏كيف يحاول (إحديدون) إغراء بنت الغولة، كي تفتح باب الكيس الذي ‏سجن فيه.‏

احديدون بالميدان برعى بجحشة* خالته

سيف أمه ع جنبه ويصيح* يـا ندامتـه

‏3.‏ النداء والإعلان: يقصد به الإيحاء بأن الكلمات الحرفية هي ‏التي نقلت لنا، وغالباً ما يختلط النداء بعاطفة أخرى مثل الاستنجاد. ففي ‏حكاية (الغزال) حين استنجد الأخ بأخته لأنهم سوف يذبحونه:‏ خيتي يا بدور ‏ مظين* لي الخوص ‏ وغلين لي القدور ‏4- كلام الأشياء غير الإنسانية: فهذه الفأرة عندما تستنجد زوجها تقول ‏في حكاية (الفأرة):‏

يا راكب الفرس والفرفسينة سلم لي على الفار وابن الفار

وقل لــه زينـة الــدار* وقعت في البحـر الهـدّار (30)‏

الهوامش

‏1.‏ خورشيد، فاروق، عالم الأدب الشعبي العجيب. دار الشروق- ‏الطبعة الأولى 1991.‏

‏2.‏ زكي، أحمد كمال، الأساطير –دراسة حضارية مقارنة، ‏بيروت. دار العودة، الطبعة الثانية بلا تاريخ.‏

‏3.‏ سرحان، نمر، الحكاية الشعبية الفلسطينية، بيروت – لبنان، ‏المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طبعة بلا تاريخ.‏

‏4.‏ تيمور، محمود، فن القصص – دراسات في القصة والمسرح، ‏مصر. مكتبة الآداب ومطبعتها، طبعة بلا تاريخ.‏

‏5.‏ د. كناعنة، شريف، الدار دار أبونا، القدس. مركز القدس ‏العالمي للدراسات الفلسطينية، طبعة 1992.‏

‏6.‏ سرحان، نمر، الحكاية الشعبية، مصدر سابق.‏

‏7.‏ جراجرة، عيسى، عشق حتى الموت، عمان. دائرة الثقافة ‏والفنون طبعة 1985.‏

‏8.‏ ‏ الخليلي، علي، البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية، ‏القدس. مؤسسة ابن رشد للنشر، الطبعة الأولى 1979.‏

‏9.‏ علقم، نبيل، مدخل لدراسة الفلكلور، البيرة. جمعية إنعاش ‏الأسرة، الطبعة الثالثة 1993.‏

‏10.‏ زيّاد، توفيق، صور من الأدب الشعبي الفلسطيني، عكا. ‏مطبعة أبو رحمون، الطبعة الثانية 1994.‏

‏11.‏ د. البرغوثي، عبد اللطيف، حكايات جان من بني زيد، جامعة ‏بيرزيت الطبعة الأولى 1979.‏

‏12.‏ الخليلي، علي، البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية – ‏مصدر سابق.‏

‏13.‏ د. كناعنة، شريف، الدار دار أبونا – مصدر سابق.‏

‏14.‏ الحسن، غسان، الحكاية الخرافية في ضفتي الأردن، دمشق. ‏دار الجليل للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1988.‏

‏15.‏ الخليلي، علي، البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية – ‏مصدر سابق.‏

‏16.‏ زيّاد، توفيق، صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مصدر ‏سابق.‏

‏17.‏ محاضرات الأدباء، نقلاً عن (الحكاية الخرافية في ضفتي ‏الأردن) – مصدر سابق.‏

‏18.‏ سرحان، نمر، الحكاية الشعبية – مصدر سابق.‏

‏19.‏ الحسن، غسان، الحكاية الخرافية – مصدر سابق.‏

‏20.‏ البرغوثي، عبد اللطيف، حكايات جان من بني زيد – مصدر ‏سابق.‏

‏21.‏ الحسن، غسان، الحكاية الخرافية- مصدر سابق.‏

‏22.‏ عيّاد، شكري، البطل في الأدب والأساطير، مطبعة المعرفة، ‏طبعة 1959.‏

‏23.‏ د. الساريسي، عمر، وعبد الهادي، يعقوب، حكايات شعبية ‏من فلسطين والأردن، عمان- الأردن. دار الينابيع للنشر والتوزيع ‏والإعلان، الجزء الثالث- طبعة 1992.‏

‏24.‏ د. الساريسي، عمر، حكايات شعبية – مصدر سابق.‏

‏25.‏ زيّاد، توفيق، صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مصدر ‏سابق.‏

‏26.‏ الخليلي، علي، البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية – ‏مصدر سابق.‏

‏27.‏ البرغوثي، عبد اللطيف، حكايات جان من بني زيد – مصدر ‏سابق.‏

‏28.‏ كناعنة، شريف، مقابلة شخصية بتاريخ 5/6/1998م.‏

‏29.‏ تيمور، محمود، فن القصص – مصدر سابق.‏

‏30.‏ الحسن، غسان، الحكاية الخرافية – مصدر سابق.‏