«بسام خليل فرنجية»: الفرق بين المراجعتين

من دائرة المعارف الفلسطينية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(أنشأ الصفحة ب'من النكبة والاقتلاع والنفي ومن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان وسوريا إلى الجا...')
(لا فرق)

مراجعة ١٠:٤٨، ٥ سبتمبر ٢٠١٨

من النكبة والاقتلاع والنفي ومن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان وسوريا إلى الجامعات الأمريكية. ولد في مخيم ‏اللاجئين الفلسطينيين في دمشق عام 1950 وعاش طفولته ككل لاجئ فلسطيني مشرد‎.‎

تخرج في جامعة دمشق وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة جورج تاون‎.‎

بعد العيش في مخيمات الأردن انتقلت العائلة إلى مخيمات لبنان ثم إلى سوريا. وعاش طفولة خانقة إذ كانت سورية تعيش سنوات ‏عصيبة من تاريخها الحديث. وتعرض كما تعرض كثير غيره لمضايقات أجهزة الاستخبارات السورية.أن يكون الانسان موجوداً في ‏سورية خاصة في الستينات يعني ان يعيش المواطن أو المقيم حياة الذل اليومي والقمع اليومي. وكانت الدولة تعمل ضد مواطنيها ‏الأبرياء وكان رجال الأمن يتفننون ويتنافسون بأساليبهم البوليسية الفهلوية في ظلم المواطنين والمقيمين وقهرهم. فغاية الحكومة كانت ‏السيطرة علىالناس وكسر شوكتهم، وتخويفهم، وممارسة البلطجة عليهم، بينما كانت الدولة ترحب بالأجانب وتسهل أعمالهم ‏وزياراتهم، وتوفر الحماية لهم. أما اسرائيل فكانت تعيش آمنة مرتاحة مبتسمة على بعد أميال من الحدود‎.‎

البرتقال وخارطة الطريق

عائلته من يافا. كان أبوه يعمل في البيارات. بيارات البرتقال. وكان كلما رأى برتقالة بعد النكبة يتحسر ويبكي. كانت البرتقالة رمزاً ‏لوطنه المسلوب، لعمله الضائع، لبيته المسلوب، لهويته المسلوبة‎.

وأقسم الوالد ألا يمسك أو يأكل برتقالة واحدة حتى يعود إلى فلسطين. ومات الوالد ولم يأكل البرتقال ولم يعد إلى وطنه. مات في ‏الغربة كألوف الفلسطينيين الذين لم يأكلوا البرتقال بعد النكبة ولم يعودوا. وماتوا حسرة في المهاجر‎.‎

‎ ‎بعد وفاة الوالد بأعوام شاهد بسام في السوق الأمريكية برتقالا مستوردا من يافا. وقف يتأمله. أمسك البرتقالة. لها رائحة مميزة. شكلها ‏يختلف عن البرتقال العادي. آه لو يراها والده، قال في نفسه. لقد فتحت تلك البرتقالة التي رآها جراحا دفينة في قلبه ووجدانه، وجعلت ‏الدموع تنهمر من عينيه وتغطي وجهه‎.‎

رجع بعدها الى البيت حزيناً خائباً غاضباً، وفتح حاسوبه فوجد في بريده الإلكتروني عدة رسائل إلكترونية تدعوه إلى حضور ‏محاضرة "هامة" في الجامعة يشترك فيها مسؤولون في السلطة الفلسطينية ومسؤولون أمريكيون لمناقشة خريطة الطريق وأبعادها. ‏بكى‎.‎

‎ ‎أي خارطة طريق وأية أبعاد تلك التي يتحدثون عنها. هذه تجارة مربحة بإسم الشعب الفلسطيني. كله باسم الشعب الفلسطيني، ركوب ‏الطائرات وسيارات الليموزين الفارهة، والإقامة في فنادق الدرجة الأولى والعشاء في أغلى المطاعم الأمريكية وأشهرها، كله على ‏حساب الشعب الفلسطيني‎.‎

راديو المخيمات

عندما كان صغيراً كان والده وأصدقاء والده يجتمعون مساء، ليستمعوا إلى الأخبار الراديو ويناقشوا قضية النكبة‎.‎

‎ ‎وكانت تبدو اجتماعاتهم وكأنها على درجة كبيرة من الأهمية، إذ كانوا يبعدون النساء والأطفال عن اجتماعاتهم ويغلقون المكان ‏وكأنهم يناقشون أمراً خطيراً، مما أثار اهتمام الوالدة. وكانوا دائماً حسب قول الوالدة "معجوقين مخفوقين" وذات مرة سألَت الأم: أنتم ‏دائماً "معجوقين مخفوقين ليش، ايش في؟"وقالت: "أخبروني بكلمة واحدة، أنا بدي أسمع نتيجة: يعني فهِّموني هل هناك رجعة ‏لفلسطين ولا ما فيش رجعة؟‎".‎

‎صمت الجميع. غضب الوالد وقال: "ما فيش فلسطين". قالت: "طيب روحوا اجتمعوا يابا...اجتمعوا قد ما بدكم‎".‎ كانت اجتماعات الفلسطينيين "الغلابى" وقتها فشة قلب. كان البسطاء والمنكوبون يجتمعون ليناقشوا أوضاعهم التعيسة. ولينفسوا عن ‏أنفسهم مشاكل حياتهم الذليلة العاجزة التي وجدوا أنفسهم فيها. وشتان ما بين اجتماعات أولئك "الغلابى" البسطاء واجتماعات القيادات ‏الفلسطينية حول خرائط الطريق التي لا نهاية لها ولا جدوى منها. تلك تهدف إلى التضليل المتعمد والخطير‎.‎

البورجوازية الفلسطينية

ليس في طفولة الفلسطيني اللاجئ ما هو ممتع‎.‎ فالأطفال يسكنون المخيمات، ويعانون القهر والظلم والحرمان. ولا أمل لهم في الخروج من هذا الوضع اللاإنساني البائس والممل. أما ‏الميسورون من الفلسطينيين فلم يذهبوا الي المخيمات. بل ذهبوا الى أماكن أخرى، حتى أن بعضهم ترك فلسطين قبل أن تحدث النكبة ‏بعام أو عامين. وعاش الميسورون مرتاحين وأرسلوا أبناءهم إلى الجامعات الأمريكية في القاهرة وبيروت وعواصم غربية أخرى، ‏وإلى أمريكا وأوروبا ليدرسوا في جامعات عريقة‎.‎

‎ ‎هؤلاء باتوا يشكلون الطبقة الفلسطينية البرجوازية المثقفة والمتعالية. هؤلاء لم يسكنوا المخيمات ولا يعرفون حقيقة آلام الشعب ‏الفلسطيني، بل إن معظمهم مارس سلطة ثقافية فوقية متعالية على بني جلدتهم. لم يصبح أي منهم شهيداً ولم يقاتل أحد منهم من أجل ‏فلسطين؟ ولم يتخل أحد منهم عن طبقته أو ينسلخ عنها، لقد اكتفوابإلقاء المحاضرات عن فلسطين وهم يرتدون بزات فاخرة وملابس ‏أنيقة لافتة للنظر.أما "الغلابى"فكانوا يصفقون لهم‎.‎

هذه العائلات البرجوازية فكراً وطبقة استفادت من وضعها المادي والاقتصادي المتميز في الحصول على ثقافة ممتازة وعاشت في ‏مجتمعات متقدمة متميزة، بينما عاش اللاجئون في المخيمات أوفي أماكن لا تتوفر فيها أدنى فرص التعلم والحصول على الثقافة ‏العالية، أوالدراسة في الجامعات الراقية، حتى أنه لم تتوفر لهم أقل متطلبات الحياة من الكرامة والطعام والرعاية الصحية‎.‎

إن دخول العائلات الفلسطينية البورجوازية في قضية فلسطين جاء رومانسية وادعاء منها لتمارس سلطة فوقية ليس إلا. إن طفلاً ‏واحداً في شوارع غـزة ونابلس وحجراً يحمله أو كلمة رفض ينطق بها، يساوي كل الطبقات الفلسطينية البرجوازية المثقفة المتعالية ‏والمزيفة ومحاضراتها المهترئة‎.‎

هذه الطبقات البرجوازية سكنت بعد النكبة في فنادق الدرجة الأولى وفتحت شركات ومقاولات في عواصم عربية وأجنبية،وانسلخت ‏عن القضية الحقيقية في مراحلها الهامة. وهنا كانت حاجة الشعب الفلسطيني إليها حاجة ماسة وتاريخية ومصيرية. فاللاجئون ‏القاعدون في المخيمات بلا دراسة ولا ثقافة ولا اتصالات كانوا بحاجة لمن هو قادر أن يمد لهم المساعدة ولمن يمثلهم ويتحدث عن ‏أوضاعهم ومشاكلهم، وأهم من ذلك كانوا بحاجة ماسة لمن يساعدهم في بلورة الوعي السياسي والفكرالأيديولوجي الذي يمكنهم من ‏انتاج رؤى جديدة تخرجهم من محدودية وقيود المكان والزمان التي يعيشونها في بيئة المخيمات البائسة التي هي بمثابة سجون كبيرة. ‏لكن البورجوازية الفلسطينية لم تتصرف كراعية ومرشدة وقدوة، بل صمتت، وركزت على نفسها ونجاحها. وساهمت لاحقاً في ‏صناعة خرائط للطريق، ولكن خرائط الطريق هذه هي لغيرهم من الفلسطينيين، إذ أنهم أنفسهم لن يعودوا. فشركاتهم وبيوتهم لا تتسع ‏لها غـزة ولا نابلـس‎.‎

خطأ الهجرة

لم يدر الأطفال كيف حصلت الهجرة. ما فهمه أن والده ما أراد أن يترك الأرض. لكن والدته سمعت أن البيوت في حارة أخرى قريبة ‏تهدمت فوق رؤوس أهلها من قبل اليهود. الناس هربوا. فوضى وقلاقل إضافة إلى وجود طوابير خامسة وعملاء ينتشرون بين ‏السكان ويخوفون الناس، ويحرضونهم على ترك البيوت. وتزامناً معها كانت القنابل ترمى على البيوت لتخويف الناس ودفعهم على ‏الهجرة. مجازر حصلت، وقيل لهم إن القادم سيكون أعظم ما لم يترك الناس بيوتهم ويرحلوا بسرعة، وانتشرت أخبار مخيفة أخرى ‏كانتشار النار في الهشيم. كل هذا كان بالتنسيق مع "القادة" العرب الذين كانوا ينفذون خطة مدروسة مسبقا "ارحلوا لمدة خمسة عشر ‏يوماً وخذوا مفاتيح بيوتكم معكم. وسنحررها لكم‎".‎ وسط هذا الهلع، اعتلى الناس ظهورالشاحنات المكتظة بالناس الهاربين وبالأغنام، وسيق بهم، ثم ا ُسْقِطُوا في مكان ما في الأردن. ‏وبعد ساعات، تحول المكان إلى مخيم، كما تحول الفلسطينيون إلى لاجئين. وهكذا اقتلعوا من أرضهم. وبدأ ذلهم يكبر ويتنامى، ساعة ‏بعد ساعة، ويوماً بعد يوم‎.‎ كان الناس يتشاطرون الخيام وكثيراً ما كانت الأم تقول حين تذكر بعض الناس الذين تعرفهم "كانوا يشاطروننا الخيمة" أو "كانوا ‏جيراننا في الخيمة". ليس هناك عمل في المخيمات إلا ابتلاع الذل. إنه عمل شاق وقاتل أن يجلس الانسان يحاول ابتلاع الذل اليومي‎.‎ ‎ ‎

من اللجوء إلى النزوح

انتقلت العائلة الى سوريا واستمر الوالد في البحث عن عمل. لم يوفق في إيجاد عمل. وأخيراً وجد عملا (مياومة) أي حسب ‏الظروف. يوما يعمل ويوما لا يعمل. عدة سنوات هكذا. إلى أن جاءته فرصة تعيسة وهي أن يعمل دهاناً في مدينة القنيطرة في هضبة ‏الجولان السورية. وهكذا انتقلت العائلة الى القنيطرة. كانت مدينة القنيطرة أسوأ من المخيمات. ليس فيها متنفس واحد. كان الناس في ‏المخيمات يتكلمون ويشكون ويلعنون ويبكون ويتزاورون دون رقيب. أما في هذه المدينة السورية البائسة فالكلام ممنوع. ‏والاجتماعات ممنوعة.والمخابرات وعناصرها الكثيرة تسيطر على أنفاس الناس وأرواحهم وأجسادهم. حتى أن رجال المخابرات ‏كانوا يقفون خلف نوافذ البيوت وأبوابها ليلاً يسترقون السمع ليعرفوا ما دار في الحديث داخل البيوت، حتى التجول ليلاً كان يؤدي ‏للمساءلة. وكان رجال المخابرات يصفعون الناس في الطرقات علانية، إن أرادوا، أو يسحبون الناس إلى دوائر الدولة، حيث ‏يستلذون بتعذيبهم‎.‎

كان الوجود العسكري والمخابراتي هائلاً، مخيفاً، غايته تخويف الناس وإرهابهم وليس تخويف العدو. فالشعب هو العدو. وكانت ‏شخصيات عناصر المخابرات مكونة من مجموعات سادية متعطشة للتسلط وصفع الناس وركلهم. وكانت المخابرات أقساماً، ‏وفروعاً، منها المخابرات العسكرية، ومنها مخابرات أمن الدولة، ومنها المخابرات العامة، والتسميات كثيرة. كان يجمعها شيء واحد: ‏التسلط، و"السلبطة"والسرقة والتباهي والفساد وضرب الشعب المسكين المرتجف دائماً خوفاً من المخابرات والجيش. ولا أحد ‏يستطيع أن يشتكي. فالشعب عاجز ومقموع ومظلوم ولا كرامة له‎.‎ عمل الوالد في ظل هذه الأجواء البائسة ليوفر لقمة العيش لخمسة من أطفاله. وكان راتبه ضئيلاً، وبالكاد كانت العائلة تأكل وتتدبر ‏أمور معيشتها وحياتها‎.‎ ‎ ‎

سقوط القنيطرة

‎ ‎ سقطت القنيطرة عام 1967 بسرعة هائلة. أمست مدينة اشباح خلال أيام. انسحبت الوحدات العسكرية والمخابراتية بسرعة هاربة إلى ‏دمشق ومشارفها، أجهزة الدولة كلها انسحبت، وتركت الشعب وحده بلا دولة تحميه أو تساعده. أهل المدينة كانوا آخر من تركها. ‏والرحيل من المدينة كان على حساب الناس. "دبروا حالكم" هكذا كانت نصائح الدولة وهي تغادر المدينة هرباً. لم تغادر العائلة إلا في ‏اليوم السادس. وقد تحولت المدينة الى مدينة شبه خالية. لم يبق في المدينة مسؤول حكومي واحد. الدولة بمخابراتها وجيوشها ‏ووحداتها و"عنترياتها" هربت بسرعة وتركت الناس. تركت الناس يدبرون حالهم. الوجود الحكومي والعسكري كله تلاشى. المدينة ‏خالية. حتى الإسرائيليين لم يدخلوا المدينة إلا بعد أن هربت الدولة منها وبعد أن هرب ناسها‎.‎

تركت العائلة القنيطرة إلى دمشق في 10حزيران (يونيو) 1967 وكانت "الحرب" التي بدأت في 5 حزيران (يونيو)قد انتهت كلياً دون ‏قتال. وإذا تكلم المرء بعدها بأن الخروج من القنيطرة كان خطأ، كان يسحب من قبل المخابرات ويضرب ويهان، لأنه لا يجوز أن ‏يقال إن الدولة تخطئ. فالدولة "لا" تخطئ. فهي دائماً مصيبة في قراراتها الاستراتيجية والتكتيكية‎.‎

الذين هاجروا من القنيطرة عام 1967 صار اسمهم نازحين اما الذين هاجروا من فلسطين عام 1948 فبقي اسمهم لاجئين. كانت ‏الوالدة وحتى يوم مماتها تقول: "ياما كنا لاجئين وصرنا نازحين. خربوا بيوتنا. الله يخرب بيوتهم". وغادرت العائلة مع آخر النازحين ‏الفارين إلى دمشق. وانتهى بهم السكن إما في بنايات كانت في طور البناء، لا كهرباء فيها ولا شبابيك، ولا أبواب، أو انتهوا في ‏المدارس، إذ كانت المدارس مغلقة أثناء الصيف. وانتهت العائلة بالسكن في المدارس، وأعطت الدولة كل عائلة أو كل عدة عائلات ‏صفاً دراسيا لتسكن فيه. ووزعت الفراش والبطانيات وغيرها على العائلات مما تيسر من المعونات الخارجية‎.‎

‎ ‎وكانت العائلات تقوم بتجميع الكراسي المدرسية وتكويم بعضها فوق بعض في نصف الغرفة وتستعمل النصف الآخر من الغرفة ‏للسكن. وفي المساء تفرش البطانيات على الأرض للنوم. وفي الصباح ترفع الفرش فوق الكراسي المكومة وتتحول نصف الغرفة ‏إياها الى غرفة جلوس واستقبال النازحين الآخرين حيث يتزاور النازحون ويفشّون قلبهم ويبكون حالهم وما آلت إليه حياتهم. و"دبرت ‏العائلات حالها" في صنع الشاي واحتسائه مع النازحين في الغرف الدراسية المجاورة. كان النازحون يجلسون ويبكون أحوالهم، ‏وكانوا يتجمعون ويستمعون للراديو لمعرفة الأخبار. يقول راديو دمشق: "لقد انتصرت إرادة الشعب العربي. وفشلت اسرائيل في ‏حربها. كان هدف اسرائيل إسقاط الأنظمة العربية التقدمية لكنها باءت بالفشل. وهكذا انتصرنا على الأعداء".ومن يقول غير ذلك كان ‏يسحب إلى فروع المخابرات في اليوم نفسه ويهان. في نهاية الصيف أجبرت الدولة النازحين على ترك المدارس لأن المدارس ‏ستفتح أبوابها للطلاب قريبا. وقالت لهم: "دبروا حالكم‎".‎

يـافـا: زيارة فلسطين الأولى

بقيت العائلة في سوريا، وبعد التخرج من جامعة دمشق سافربسام فرنجية إلى أمريكا في رحلة خرافية. بلا مال ولا معارف. وانتهى ‏به المطاف في مدينة واشنطن العاصمة‎.‎ وتمكن من الالتحاق بجامعة جورج تاون وحصل على الماجستير والدكتوراه منها. وأثناء دراسته كان يعمل عدة أعمال إضافية ليغطي ‏نفقات معيشته، وحصل في الوقت نفسه على منحة دراسية من الجامعة حيث غطت الجامعة نفقات دراسته مقابل أن يقوم بمساعدة ‏الأساتذة في الجامعة ويقدم حلقات دراسية للطلاب‎.‎ بعد الحصول على الدكتوراه، عمل في هيئة التدريس في الجامعة. بعدها بسنوات انتقل إلى جامعة يـيـل حيث عمل فيها أربعة عشر ‏عاماً، بعدها انتقل إلى كلية كليرمونت مكينا‎.‎ كان يظن زيارة فلسطين مستحيلاً‎.‎

لكن بقدرة قادر حدثت الزيارة، خاطفة هكذا، ودون سابق خطة، فلسطين التي تعيش في القلب وفي الوجدان كانت بعيدة عن واقع ‏المهاجرين، كانت فلسطين كعزيز مات. لا أمل في عودته أو رؤيته. وكانت سراباً يصعب الاقتراب منه‎.‎

‎ ‎دعي إلى المشاركة في مؤتمر عن اللغويات في الأردن. وعندما وصل الأردن قادماً إليها من أمريكا بعد سنوات طويلة من النفي، ‏شعر بحنين جامح إلى الأرض الفلسطينية التي تتصل جغرافياً بأرض الأردن، وهناك اعتلته رغبة لاهبة في زيارة الوطن الأم. فترك ‏المؤتمر وقطع الجسر إلى فلسطين. كانت وجهته يافا. يافا هي بلدة أهله التي لا يعرفها. وقطع الجسربصعوبة وإهانة من قبل الجانبين ‏المشرفين عليه، بعد أن قطع الجسر لم يعرف ماذا يفعل. بدأ ينظر الى التراب والشجيرات. هذه إذن فلسطين الوطن. شعر بقشعريرة ‏ورجفة. هذه هي الأرض التي ينتمي اليها إذن. بدا له كل شبر فيها مقدساً. حتى الرمال والحجارة والشوارع رآها مقدسة. وأخذ سيارة ‏أجرة إلى يافا وبقي فيها ساعتين يتجول فيها، ولا سيما حارة العجمي مسقط رأس والديه، رحمهما الله. وكم سمع عن العجمي منهما. ‏ليته يستطيع أن يخبر الوالدين بأنه شاهد الأرض التي طالما كانا يحلمان بالعودة اليها. مرَّ في الشوارع غريباً وحيداً حزيناً. كانت ‏الحارة مقفرة موحشة. فكر بمفتاح البيت الذي احتفظت به أمه حتى ساعة مماتها. تكلم مع عجوزطاعنة في السن، كانت جالسة أمام ‏بيتها في الحارة المقفرة. كانت تعرف والديه.وأشارت إلى بيتهما. كان البيت مهجوراً. متآكلا. شبابيكه مكسرة. حيطانه خربة. نظر إليه ‏من الشبابيك المكسرة. لا فرش فيه. لا شيء فيه. لا أحد. إلا الغبار المتراكم وما تساقط من الحيطان والسقف، البيت مهمل. الباب ‏مغلق. لم يدخل. لم يستطع التحدث كثيراً مع السيدة العجوز. فقد كانت بالكاد تتكلم، صحتها مهترئة هي الأخرى كاهتراء حارة ‏العجمي. لكنها قالت:" لماذا تركا؟". لماذا تركا البيت والوطن؟ قالتها بصوت متقطع فيه صعوبة في النطق وفيه حزن وخيبة وعتاب. ‏كانت تعاتبه. وتابعت: "كان عليهما ألا يغادرا‎".‎

‎ ‎دخلت كلماتها أعماقه كالخنجر. وكأنه أصيب بضربة بليغة مفاجئة في رأسه، كاد يقع على الأرض. شعر بالدوار. شعر بالخيانة. ‏شعر بأنه خائن. بأنه خان وطنه. وبأن أهله خانوا وطنهم. كيف يمكن للمرء أن يترك أرضه حقاً مهما كانت الظروف؟ كان على ‏والديه أن يبقيا في الأرض وأن يموتا فيها. وكان على الشعب كله أن يبقى في أرضه. فالبقاء هو الطريقة الوحيدة للثبات في الوطن. ‏كان اللجوء خطأ لا يغتفر. اللجوء هو الذل وفقدان الأرض والهوية والوطن. والبقاء هوالبطولة والمقاومة والتشبث بالهوية والكرامة ‏والأرض. لكن قصة الغدر التي أصابت الفلسطينيين كانت أكبر مما يتخيله المرء‎.‎ ‎ ‎

نابلس: زيارة فلسطين الثانية

‎ ‎ سنوات طويلة مرت على تلك الزيارة القصيرة إلى يافا. ومشاعر الخيبة العميقة الممزوجة بمشاعر الحنين الجارف كانت تعمل دائماً ‏في القلب والوجدان.كان هناك بعض أمل في العودة. لكن أوسلو وخرائط الطريق والفساد الإداري خربت كل النضال الفلسطيني. ‏وتحولت قضية فلسطين من قضية نضال وحق وطني مشروع إلى قضية استجداء ورواتب ومناصب شكلية لا أهمية لها. وباتت ‏منظمة التحرير عاجزة عن أداء الدور الذي تبنّته أول ما ظهرت، وتناقضت مع نفسها حن ألغت الميثاق الوطني. وانساقت وراء ‏الولايات المتحدة. لقد أحبطت "أوسلو" مطامح الشعب الفلسطيني وأجهضت حقوقه كلها. ودقت أكبر مسمار في نعشه‎.‎

في يوم من سنة 2013 جاءت هكذا وفجأة رسالة إلكترونية من الأستاذ الدكتور يحيى جبر فيها دعوة لحضور إنطلاقة مؤتمر عالمي ‏للأكاديميين الفلسطينيين في المهجروالشتات على أرض فلسطين وفي جامعة النجاح الوطنية، في مدينة نابلس‎.‎

انتعشت الروح، فهذه دعوة تبشر بالخير، وتدعو الفلسطينيين للقدوم إلى فلسطين، والمشاركة في إعادة رسم معالم الثوابت الفلسطينية ‏الوطنية. هناك من يعمل على إعادة تصحيح المفاهيم. ما أنبلها من دعوة وما أقدسها من رسالة. فلسطينيو الشتات مدعوون للعودة إلى ‏الوطن، الفرصة الذهبية تدعوهم ليتكاتفوا وليساهموا ولينصروا فلسطين، هم مدعوون كذلك ليشموا رائحة الأرض، وليتنفسوا هواء ‏الوطن، وليمشوا فوق ترابه الطيب الحبيب‎.‎

وصلنا نابلس، المدينة الفلسطينية الخالدة، ذات الحضارة العريقة، والتاريخ الثقافي الضارب في الجذور، هذه المدينة الصلبة المحافظة ‏على العادات والتقاليد الفلسطينية الأصيلة، ذات الناس الطيبين المغروسين بملح الأرض المقدسة وزيتونها المقدس. ما أجملها من ‏مدينة، وما أطيب شعبها البسيط النقي. وعندها أدركنا أنَّ من لم يزر نابلس، فهو لم يزر فلسطين. وأن من لا يعرف نابلس، هو لا ‏يعرف فلسطين. إن نابلس هي عصارة التاريخ الفلسطيني، وعصارة الحضارة الفلسطينية‎.‎

لقد حضر المؤتمرعدد كبير من الأكاديميين الفلسطينيين من المهجر والشتات، وحضرها أعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ‏والأستاذ الدكتور رامي حمد الله، رئيس جامعة النجاح، ورئيس الوزراء الفلسطيني الحالي، والأستاذ الدكتور يحيى جبر، رئيس اللجنة ‏التحضيرية للمؤتمر، والسيد تيسير خالد، رئيس دائرة شؤون المغتربين في منظمة التحرير الفلسطينية، وعدد كبير من الباحثين ‏الفلسطينيين من مختلف أنحاء العالم، ونظم هذا المؤتمر الرائد جامعة النجاح الوطنية، ودائرة شؤون المغتربين في منظمة التحرير‎.‎ وكانت السلطات الاسرائيلية قد منعت أكثر من ستة عشر مشاركاً من دول عربية وأوربية من حضور المؤتمر‎.‎

وقد رحب الدكتور يحيى جبربحرارة بالمشاركين في هذا المؤتمر الذي تحتضنه جامعة النجاح الوطنية. وأكد أن هذا المؤتمر هو ‏خطوة أولى من أجل انطلاقة جديدة على طريق التحرير والتحرر‎.‎

كما أكد الدكتور رامي حمد الله على أهمية هذا المؤتمر الذي يمثل خطوة رائدة في المشروع التنموي والحضاري الفلسطيني ويمثل ‏دفعة نحو الأمام من أجل ترسيخ الحرية والديمقراطية وبناء المؤسسات‎.‎ واستمرت أعمال المؤتمر ثلاثة أيام مكثفة تغطيها الضيافة الفلسطينية الأصيلة والكرم النابلسي الأصيل‎.‎ ذاك المؤتمر كان أفضل ما قدمته القضية الفلسطينية لأبنائها في المهجر والشتات منذ النكبة وحتى اليوم. فقد خرج المجتمعون ‏بتوصيات غاية في الأهمية في ختام المؤتمر. وغادرنا المؤتمر يملأ الفرح قلوبنا بإنجاز تاريخي هام، منتظرين دعوة قريبة لحضور ‏المؤتمر الثاني. والمتابعة‎.‎ انتظرنا سنوات ثلاث. لم تنفذ التوصيات‎.‎ ولم ينعقد المؤتمر الثاني‎.‎ ولم يحصل شيء‎.‎ ‎ ‎ولا زالت كلمات الدكتور يحيى جبر تتردد في مسامعنا " هذاالمؤتمرهو خطوة أولى من أجل انطلاقة جديدة على طريق ‏التحريروالتحرر‎".‎ ‎ ‎ بانتظار المتغيرات. وبانتظار الانطلاقة على طريق التحرير والتحرر‎.‎ ‎ ‎ بسام فرنجية عاد إلى أمريكا، منفاه الطويل المؤقت، إلى أن يستطيع العودة إلى تراب الوطن. يعمل الآن أستاذاً في كلية كليرمونت ‏مكينا في ولاية كاليفورنيا، وهو مدير برامج العربية، ورئيس دائرة اللغات والآداب فيها. كتب العديد من الكتب والمقالات والأبحاث ‏وترجم لأهم الشعراء والروائيين العرب. وحصل على جائزة أفضل أستاذ في جامعة يـيـل عام 2001 وعلى جائزة مثلها من كلية ‏كليرمونت مكينا في سنة 2011‏‎.‎


المراجع

‎- ‎بسام فرنجية "الاغتراب في الرواية الفلسطينية"، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1989‏

‎- ‎بسام فرنجية "بهجة الاكتشاف: رسائل نزار قباني وعبد الوهاب البياتي وهاني الراهب إلى بسام فرنجية". المؤسسة العربية ‏للدراسات والنشر، بيروت، 2003‏

‎- ‎بسام فرنجية "أنطولوجيا الأدب والثقافة والفكر العربي من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث" دار جامعة يـيـل، نيوهيفن ‏‏2005‏

‎- ‎بسام فرنجية "العربية للحياة" دار جامعة يـيـل، نيوهيفن 2011‏

‎- ‎بسام فرنجية "حب وموت ونفي، قصائد مترجمة إلى الإنكليزية من شعرعبد الوهاب البياتي" جامعة جورجتاون، واشنطن، 1991‏

‎-‎القدس العربي، العدد 05-6-2006‏

‎- ‎الحوادث، العدد 30-2-2006‏

‎-‎الحوادث، العدد 3-10-2008‏‎

‎- ‎الموقف الأدبي، العدد 215-216، آذار- نيسان 1989‏‎

‎- ‎شرفات، دمشق، العدد 19 أيار 2008‏‎

‎- ‎الرأي، العدد 12-7-1996‏‎

‎- ‎الحياة، 5 ابريل 1991‏‎

‎- ‎الحياة، 19 شباط 1990‏‎

‎- ‎المحرر العدد 89، 21 أكتوبر 1989‏‎

‎- ‎الفينيق، 22-1-1996‏‎

‎- ‎الفينيق، 13-7-1996‏

‎- ‎فلسطين الثورة، العدد 799، السنة الثامنة عشرة، 3 حزيران 1990‏‎.‎

‎- ‎ملحق جريدة الثورة السورية، العدد 13792، الثلاثاء 23 كانون الأول 2008‏‎.‎