«روحي الخالدي»: الفرق بين المراجعتين
(←شخصية الخالدي الثقافية) |
|||
سطر ٥٦: | سطر ٥٦: | ||
تميز أسلوب الخالدي بسهولة العبارة وتناسقها، تبعث في القارئ لذة وشوقاً للمطالعة، وهو يتوخى الدقة العلمية في استعمال ألفاظه ولا يقر الزخرف والتكلّف ويرجح المعنى على اللفظ ويجعل من الألفاظ خدم للمعاني وأكثر ما تظهر قدرته على التعبير حتى يكتب عن معان نفسية دقيقة أو موضوعات لم تكن مصطلحاتها استقرت على أقلام الكتاب في زمنه(27)، ومع ذلك نلاحظ أن الخالدي يسجّع أحياناً ولكن في مقدمات بعض كتبه، دون أن يظهر عليه، التكلّف والافتعال(28). وهو مغرم بالستشهاد بالشعر، لا تكاد تسنح له مناسبة وإلا وذكر ما خطر له عندها من تلك الأبيات. | تميز أسلوب الخالدي بسهولة العبارة وتناسقها، تبعث في القارئ لذة وشوقاً للمطالعة، وهو يتوخى الدقة العلمية في استعمال ألفاظه ولا يقر الزخرف والتكلّف ويرجح المعنى على اللفظ ويجعل من الألفاظ خدم للمعاني وأكثر ما تظهر قدرته على التعبير حتى يكتب عن معان نفسية دقيقة أو موضوعات لم تكن مصطلحاتها استقرت على أقلام الكتاب في زمنه(27)، ومع ذلك نلاحظ أن الخالدي يسجّع أحياناً ولكن في مقدمات بعض كتبه، دون أن يظهر عليه، التكلّف والافتعال(28). وهو مغرم بالستشهاد بالشعر، لا تكاد تسنح له مناسبة وإلا وذكر ما خطر له عندها من تلك الأبيات. | ||
+ | |||
+ | ==الخالدي ذو الوجوه الفكرية المتعددة== | ||
+ | |||
+ | ===المدافع عن الحرية=== | ||
+ | كان الخالدي من الطبقة العليا، القنصل العثماني في بوردو، الوكيل الأول لمجلس المبعوثان ونائب القدس الشريف فيه، أي أن موقعه الاجتماعي كان إلى جانب المحافظة والتقليد مع ذلك فقد قدم في كتبه أمثلة من الآراء الحديثة والتفتح العقلي(29)، وكان يهيم بالحرية ويدعو إليها، وينافح في سبيلها بقلمه وكان حبه للحرية يشمل جميع جوانبها سواء كانت حرية فكرية أم سياسية أم اجتماعية أم دينية فهو لا يكاد يترك مناسبة يرد ذكرها في كتاباته دون أن يغتنمها للتعقيب عليها مشيداً بالحرية داعياً إليها ذاكراً فضائلها، وندّد بالاستبداد الذي اتسم به عهد السلطان عبد الحميد 1876- 1908 وجعله "منبع الشرور وسبب التأخر والانحطاط"(30)، وانتقد ما كان منتشراً في أجهزة الحكم من فساد وانحلال داخلي وخاصة في القصر(31)، وتحدث عما أصاب أحرار العثمانيين من اضطهاد وتحقير وعذاب حتى صار "أرباب الدناءة والفساد يتقربون (للمابين) بالتملق والتجسس على اخوانهم وأعمامهم وآبائهم"(32). وتأثر في آرائه ودعوته إلى الاصلاح والحرية بالفكر السياسي الفرنسي و بخاصة بمفكري الثورة الفرنسية مثل ديدرو ومنتسكيو وروسو فهو يعالج قضية الحرية مستشهداً بآرائهم ويسوق ما قاله مونتسكيو في أثر الحرية على الانتاج "ومن القواعد التي قررها الفيلسوف الشهير مونتسكيو مؤلف روح القوانين إن الأراضي تقل غلتها بالنسبة لحرية سكانها لا بالنسبة لخصبها فإذا كان الفلاح حراً عمّر الأرض الموات وجعلها مخصبة بعمله وحراثته، وإذا فقد الحرية أصبحت أرضه المخصبة مواتاً بسبب الظلم والاستبدداد(33). | ||
+ | |||
+ | وقد وصفه جرجي زيدان، وهو يقدم مقالته الأولى عن الانقلاب العثماني، بأنه "أحد كبار الأحرار العثمانيين" وأنه من "جملة الذين جاهدوا في سبيل الحرية"(34)، ولكنه كان مضطراً إلى كتمان اسمه أو التوقيع باسم مستعار (المقدسي) في كل ما كتب خلال عشر سنوات حين كان قنصلا عاماً للدولة العثمانية في بوردو 1898- 1908. وفسر جرجي زيدان (35)كتمان الخالدي اسمه "... ومع اعتدال لهجته وتجنبه الطعن والقرص فقد كان يخاف تأويل أقواله ولا تطاوعه حميته على السكوت ففضل كتمان اسمه". وكانت الآراء التجديدية في تلك الفترة تجلب النقمة الرسمية على صاحبها حتى لو ظلت في اطار الثقافة و"الأدب"(36)، وشرح جرجي زيدان بمناسبة اصدار الهلال الطبعة الثانية لكتاب الخالدي "تاريخ علم الأدب عند الأفرنج والعرب"(37)، أسباب عدم نشر توقيع الخالدي على الطبعة الأولى من الكتاب الصادرة 1904 "المؤلف يومئذ قنصل جنرال الدولة العثمانية في بوردو وقد نال الاستبداد من نفوس العثمانيين وقيد أقلام أحرارهم فلم نعد نسمع غير أصوات المتزلفين أو المتملقين وإذا تكلم الحرّ تكلم همساً وإذا كتب أخفى اسمه ولا سيما اذا كان من موظفي الحكومة،ولو كان موضوعه في الأدب أو الطب، لأن الجواسيس يحولون كل معنى إلى المكايد والدسائس". | ||
+ | |||
+ | وحين أعلن الدستور 1908 بكل ما حمل من معاني الحرية والمساواة "صار الخالدي من أعظم أركانه". | ||
+ | |||
+ | ===الباحث في التاريخ=== | ||
+ | يرد د، ناصر الأسد في كتابه عن روحي الخالدي(38) ان كتاباته رغم تنوعها واختلاف عناوينها وتعدد موضوعاتها يلفّها اطارعام هو اطار البحث التاريخي، فهو يبدي جهداً وصبراً على البحث والتقصي وحرصاً على الدقة ويتقيد بالأمانة العلمية من حيث الرجوع إلى المصادر المطبوعة والمخطوطة والمعاجم والأطالس من موسوعات واحصاءات واستخلاص ما يناسب موضوعاته من مادتها مع الاشارة إليها في حواشيه مع ذكر اسم المؤلف وعنوان الكتاب وسنة الطبع ومكانه. ويلحظ د. الأسد الصفة التاريخية في جميع ما كتبه فهو يرجع بكل موضوع إلى مقدماته وإلى أقدم ما يستطيع الرجوع إليه من تاريخ الموضوع، ففي كتابه "رسالة في سرعة انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الاسلامي" يبدأ بمقدمة تاريخية عن سيرة الرسوم ثم عرض سريع لانتشار الدين الاسلامي منذ بدء الدعوة ويعيد وسائل هذا الانتشار إلى الفتح، والدعوة والارشاد، التجارة والاتصال المباشر، بساطة الدين نفسه وقربه من طبائع النفس الانسانية وفطرتها، وتغلب على حديثه الثقة بأن الدين الاسلامي هو دين المستقبل. وفي القسم الثاني من الكتاب "نظرة عامة إلى العالم الاسلامي" تتبع الأقطار التي فيها مسلمون مع نبذة موجزة عن كل قطر من حيث موقعه الجغرافي وحدوده، ووضعه السياسي وأحواله العامة وأصل سكانه وتقسيماته الداخلية وانتهى من تتبعه إلى أن عدد المسلمين كان حينئذ عام (1896) 286.859.000 أي أن عدد المسلمين في العالم يتجاوز خمس مجموع النفوس البشرية، وقد استفاد الخالدي في كتابه من دراسته الحديثة في مدرسة العلوم السياسية بباريس وفي السوربون فاستعان ببعض العلوم التي جدّت حديثاً وفي ارسائه لأصول مصطلحاتها باللغة العربية (علم الاحصاء ستاتسيق) وعلم الاقتصاد السياسي (علم الثروة). | ||
+ | |||
+ | وفي بداية كتابه "المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر"، يذكر بدء اتصاله بموضوع المسألة الشرقية منذ ان كان طالباً في الاستانة(39)، إلى أن استكمل عنده الجمع والبحث، فبعث بما كتبه إلى الأهرام كي يطلع عليه قراءة العربية فيستفيدوا منه ويعلقوا عليه بآرائهم، وبعد أن يطرح الخالدي السؤال التالي "هل تحافظ أوروبا على بقاء المملكة العثمانية أو تتركها تنقرض وتزول؟". يعرف المسألة الشرقية بأنها "جدال سياسي على استبقاء الممالك المحرومة أو تقسيمها، وربما أفضى ذلك الجدال إلى قتال بين الدولة العثمانية لسعيها في المحافظة على بقائها- ودول انكلترة وفرنسا واستراليا وإيطاليا العاملين على حمايتها والمحافظة على كيانها لمنافعهم التجارية ولمنع توسع الدولة الروسية أو على أخذ كل نصيب منها عند حصول الاتفاق بينهم". أما عن أساس المسألة الشرقية فيعود إلى الأزمنة المتوسطة "عن منافسة الشرق للغرب وطمع سكان كل منهما في الاستيلاء على الآخر وكان الدين أعظم مروّج لهذه المناسبة. ثم تسلسل في تتبع تاريخي للأحداث إلى أن قال: فمنذ أوجدت الأتراك في أوروبا أو بعبارة أخرى منذ دخل الاسلام أوروبا من الشرق، وجدت مسألتنا الشرقية"، وانتقل إلى الحديث عن مواقع المسألة الشرقية أي "المواقع التي تسبب حدوث ارتباكاتها السياسية (البلقان والشرق الأوسط وساحل افريقيا الشمالي)، وتحدث عن قيمة هذه البلاد وأثرها في ميدان الحضارة ثم دخل مداخل تاريخية متشعبة فتحدث عن تاريخ الدولة العثمانية وتاريخ روسيا وعن "المحرك لطمع روسيا"، فأرجعه إلى سبين مادي وهو الافتقار إلى الثغور البحرية والثاني معنوي حسي وهو "الادعاء بميراث قياصرة الروم". ثم فصّل الحديث عن العلاقات الودية بين فرنسا والبلاد الإسلامية وختمه بموضوع "التجارة الفرنساوية في الشرق" ويقصد من ذلك بيان الأسباب التي دعت فرنسا لأن تقف مع الدولة العثمانية ضد روسيا، وقد حاول في كتابه أن يفسر مواقف الدول تفسيراً علمياً يوضح المصالح والمنافع التي تتحكم في توجيه سياستها ويبرز العوامل الاقتصادية التي كانت وراء تطور المسألة. | ||
+ | |||
+ | وفي كتابه "الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" ثم موضوعه على فصول قصيرة لها عناوين (29 فصلاً) بحث في الأول تحديد المصطلح فقال: ".. الانقلاب في اصطلاح المؤرخين تغير مهم في حكومة الدولة وقلب في قوانينها وهو غير الثورة التي بمعنى العصيان والخروج عن الطاعة والقيام على الحكومة المشروعة، والفرق بين الانقلاب Revolution والثورة Revote كبير، فإن الثورة كثيراً ما تضر بمنافع الأمة ومصالحها بخلاف الانقلاب فإنه مهما آلم الأمة ورضرضها فهو يخطو بها خطوة في التقدم". ثم قدّم ثلاثة فصول عن الاستبداد "يتولد الانقلاب من الاستبداد، والاستبداد أسيوي وليس اسلامياً ومنبع الاستبداد قصر الملك أو الخلافة" وبرأ الاسلام من الوصمة التي حاول بعض الأجانب الصاقها به، ووضح أن الاسلام دين الحرية والمساواة والديمقراطية وأن الاستبداد طارئ دحيل على الاسلام، ثم أدار فصلاً خاصاً عن الفساد في القصر العثماني، عنوانه "قصر السلطة العثمانية وتربية ولي العهد والكامريلا Camarilla" وهي كلمة اسبانية معناها جماعة المتنفذين في قصر الملك.وتتابعت الفصول عن التذمر الذي بدأ ينتشر بين بعض كبار رجال الدولة من الأحرار، وعن مشروعات الاصلاحات التي تعاقبت منذ صدارة مصطفى رشيد باشا حتى الحرب بين المابين وتركيا الفتاة، ثم عقد فصلاً عنوانه "ظهور المابين وتفشي الفساد والاختلال"، وأورد كثيراً من الأمثلة، ثم جاءت أربعة فصول عن "اتحاد الأرمن والأتراك في طلب الحرية"، "ونهضة جمعية الاتحاد والترقي وانتشارها"، "ونهاية الفساد والخراب في أحوال الدولة" و "انفجار بركان الحرية وحصول الانقلاب في 24 تموز". وختم البحث بخلاصة قال في آخرها: "فالفضل في حدوث الانقلاب العثماني بغير سفك دم ولا حصول اضطراب وقلاقل في المملكة انما هو للشريعة الاسلامية وما في أحكامها من العدالة الانسانية والمساواة في الحقوق". | ||
+ | |||
+ | وجاء في كتابه "الكيمياء عند العرب" من وحي مقالته في الهلال عن "برتلو" العالم الكيميائي الفرنسي التي لعلها أثارته إلى مواصلة البحث في تاريخ الكيمياء لمعرفة ما كان أحدثه العرب في هذا الميدان وما كان لهم من فضل في نقله إلى أوروبا. وهو يبدأ بتمهيد يبين أن غرضه من الكتاب بيان ما كان لععرب من أثر حقيقي في خدمة العلم وكشف الحقائق للوصل بالبشرية إلى درجة الكمال". | ||
+ | وأقتبس أقوال بعض العلماء الافرنج الذين يقرون بفضل العرب في العلوم عامة، ثم عقد فصلاً عنوانه "جابر" ويقصد به الكيمياء لأن جابر بن حيان "إمام المدونين فيها" وقد بحث في معنى كلمة (الكيمياء) واشتقاقاتها وأصلها وتبين موضوعات علم الكيمياء وتتبع تاريخياً نشأة هذا العلم عند الأمم المختلفة. ثم عقد فصولاً متتالية عن عدد من العلماء المسلمين كان لهم فضل مشهود به على الكيمياء فتتبع حياتهم وجهودهم وتأليفهم وما ذكرته عنهم الكتب العربية والكتب الأجنبية مشيدة بفضلهم. ثم عقد فصولاً عن انتقال الكيمياء من العرب إلى الافرنج وعن علماء الأفرنج الذين أخذوا الكيمياء عن العرب في القرون الوسطى، وتحدث في فصول أخرى غن أمور شتى من الكيمياء مثلاً عن "الأكسير وانقلاب المعادل بعضها لبعض" وعلم "العناصر وعالم الأفلاك" ومذهبا ابن سينا والفارابي في الكيمياء، وفي كتابه يشرح الخالدي موضوعاته شرح المتصل بها العرف للبعض جوانبها ويستشهد بأقوال العلماء المسلمين ويتقبس من أقوال العلماء الأجانب. | ||
+ | ومع غلبة السرد التاريخي على كتب الخالدي، فإنه لم يكتفي بمجرد السرد وذكر الأحداث المتعاقبة بل كثيراً ما كان يتوقف ليستخرج منها مدلولاتها الاجتماعية أو النفسية أو الاقتصادية ليتخذ كل ذلك أساساً لتفسير الأحداث وليربط المظاهر بأسبابها والنتائج بمقدماتها. | ||
+ | |||
+ | |||
[[تصنيف:شخصيات وأعلام]] | [[تصنيف:شخصيات وأعلام]] |
مراجعة ١١:٣٣، ٥ أبريل ٢٠١٨
روحي الخالدي (1864- 1913): في بيت عريق من بيوتات العلم ولد بن ياسين بن محمد علي بن محمد بن خليل بن صنع الله الخالدي المقدسي(1)، وهو لا يعد من أعلام عرب فلسطين بل من أعلام الأمة العربية، ولكنه لم ينل من الاهتمام ما يستحقةه بوصفه من زعماء النهضه الفكرية والأدبية الحديثة.
وقد كتب لنفسه سيرة ذاتية نشرتها 1908 مجلة الأصمعي التي كانت تصدر في يافا... ولخصها جرجي زيدان ونشرها في مجلة الهلال(2)، ونشرت مجلة المنادى التي كانت تصدر في القدس 1908 سيرة مفصلة للخالدين نقلها ناشر كتاب "المقدسة في المسألة الشرقية"(3) وصدّر بها الكتاب(4).
وتنقسم سيرة المترجم إلى مراحل خمسة (5) مرحلة دراسته الابتدائية والثانوية ــ مرحلة دراساته العليا في الأستانة وباريس _ مرحلة عمله الأكاديمي في باريس مرحلة عمله قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في مدينة بوردو في فرنسا ـ مرحلة انتخابه نائباً عن القدس في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) في الأستانة وانتخابه نائباً لرئيس هذا المجلس.
محتويات
ميلاده ونشأته
ولد روحي الخالدي في مدينة القدس في مجلة باب السلسة (أحد أبواب الحرم الشريف) عام1281هـ/ 1864م. وقد انتخب والده ياسين في عهد ولاية راشد باشا والي سورية وأحد الزعماء الاصلاحيين (بدأت ولايته 1866) لينوب عن أهل القدس في المجلس العمومي ببيروت، ثم تولى نيابة طرابلس الشام، وكان يصطحب أفراد أسرته حيثما اتجه، ولما عزل راشد باشا عن ولاية سورية عاد ياسين إلى القدس والتحق روحي بالكتاب ومدارس الحكومة الابتدائية، وكان عمره حينئذ نحو سبع سنوات.
ولما تولى مدحت باشا ولاية سورية 1878 أخذ يجمع من يثق باخلاصهم ونزاهتهم ويعيدهم إلى مراكزهم، وعين ياسين الخالدي قاضياً شرعياً في مدينة نابلس فالنحق ابنه روحي بالمكتب الرشدي فيها (يعادل الصفوف الثلاثة الأخيرة من المرحلة الابتدائية). وحين نقل قاضياً لطرابلس الشام التحق ابنه بالمدرسة الوطنية(6). وقبل نهاية هذه المرحلة بقليل صحب روحي عمه عبد الرحمن نافذ في زيارة إلى الأستانة حيث عرفه الأخير إلى شرم شيخ الاسلام الذي رغب في تشجيع الفتى على طلب العلم "فانعم عليه برتبة (رؤس بروسة) وهي أول درجة في سلم المراتب العلمية وكسوتها جبة زرقاء مطرزة بالقصب عند القبة وعمار عليها شريط مقصب وبلقب صاحبها ب(قدرة العلماء المحققين) ويعدّ مدرسا في مدرسة رابعة الخير في مدينة بروسة، ولم يكن روحي حينئذ يبلغ السادسة عشر وهو تلميذ وليس مدرساً وكان ذلك في 15 ربيع الأول 1297هـ/ 1880م.
تعليمه وعمله
وحين عاد روحي إلى القدس أخذ يحضر دروس المسجد الأقصى ويتلقى فيه علوم الفقه والتوحيد والحديث والنحو والصرف والمنطق والبيان والبديع، ويتردد على مدرسة الأليانس(7)، ومدرسة الرهبان البيض (الصلاحية)(8)، ليتقن اللغة الفرنسية وليطلع عن بعض جوانب الثقافات الدينية والأجنبية المختلفة. وأخذ يتصل بالمفكرين من سياح الفرنجة الوافدين على بيت المقدس ويلاحظ أمورهم "وسمع من بعضهم خطباً في تاريخ الأرض المقدسة وما كانت عليه من العمران فأدرك الفرق بين الشرق والغرب"(9)، ثم التحق بالمدرسة السلطانية في بيروت (تعادل الثانوية) وظل فيها إلى حين انحلالها(10)، فعاد إلى القدس وواصل حضور حلقات الدرس في المسجد الأقصى. وفي نهاية هذه المرحلة انتظم روحي في (سلك خدّام الحكومة في الدوائر العدلية)، وكان ذلك كما يبدو، بضغط من والديه، بينما كان روحي شديد الرغبة في متابعة دراساته في الأستانة عن طريق البحر، لكنه أرغم على العودة إلى القدس بعد أن وصل إلى ظهر الباخرة في يافا(11).
وعيّن روحي، بعيد عودته إلى القدس، "باش كاتب" لمحكمة غزة، وبدل أن يذهب إلى مقر عمله لجديد تمكن من الافلات والسفر إلى الأستانة حيث بدأ المرحلة الثانية من سيرته فدخل المكتب المُلْكي الشاهاني (وكان معهداً عالياً للعلوم السياسية والإدارة). ولم يقتصر على الكتب المقررة، بل أن نهمه إلى المعرفة دفعه إلى قراءة كتب سياسية تمنعها إدارة المدرسة، فناله العقاب المدرسي. وبقي في المكتب المُلْكي ستة أعوام 1887/1983، أخذ في نهايتها الشهادة العالية، وعند عودته إلى القدس عُيّن معلماً في "المكتب الإعدادي" فيها، لكنه "رأى في نفسه أنه أجدر بان يتولى وظيفة أعلى من هذه"، فرجع إلى الأستانة وطلب أن يعين "قائم مقاماً" لأحد الأقضية، ولكن عيل صبره وهو ينتظر صدورالأمر بتعيينه، وساءه ما لقي من مساعي المفسدين والجواسيس، فسافر إلى باريس وهو "لا يعرف أحداً فيها". ثم عاد إلى الأستانة وأخذ يتردد على مجالس السيد جمال الدين الأفغاني، وكان الأفغاني تحت رقابة مشددة من قبل أجهزة الأمن العثماني واشتدت المراقبة على الذين يحضرون مجلسه. فاضطر روحي نفسه إلى "هجر البلاد العثمانية" لفرنسا، ودخل مدرسة العلوم السياسية في باريس، وأتم دروسه في ثلاثة أعوام ثم التحق بدار الفنون العالية (السوربون) ودرس فيها فلسفة العلوم الاسلامية والاداب الشرقية، فاطلع على ضروب مختلفة من الثقافة الحديثة والمعارف العصرية، أما أهم الأستاذة الفرنسيين الذين يذكر فضلهم عليه في فهم "البيرفراندال" المتخصص والمحاضر في المسألة الشرقية، وشيخ التاريخ السياسي "البيرسورل Albert Sorel"" والمؤرخ ووزير المعارف السيد الفرد رامبو Alfred Rambaud والمستشرق اللغوي المتخصص في اللغة الحميرية هارتويغ ديرا بنورغ Hartwig Derenbourg والعالم الشهير بعلم الإحصاء ليفاسور Levasseur.
وعند نهاية دراساته الجامعية بدأت المرحلة الثالثة من سيرة الخالدي وهي مرحلة عمله الأكاديمي، فقد عين مدرساً في جمعية اللغات الاجنبية في باريس(12). وأخذ يعقد الندوات العلمية "قونفرانس"، وصار يدعي إلى إلقاء المحاضرات بالعربية وشرح المسائل الشرقية والاسلامية والعربية، ولعله أول من فعل ذلك في الجمعية من العرب، ودخل المسائل الشرقية والاسلامية والعربية، ودخل عضواً في مؤتمر المستشرقين المنعقد في باريس 1897 (كان قد بدا تعرّفه بالمستشرقين وهو طالب في السوربون وأصبح له بينهم نشاط علمي)، وأخذت الصحف تنشر مادة محاضراته، وقبلاً كانت تنشر مثل هذا لجمال الدين الأفغاني(13)، كما نشرت الصحف العربية مقتطفات من محاضراته وعدداً من مقالاته.
وتبدأ المرحلة الرابعة من سيرة الخالدي بعودته إلى الأستانة 1316/1989 حيث صدرت الإرادة السنية بتعيينه قنصلاً عاماً في مدينة بوردو وتوابعها، فرحبت به حكومة الجمهورية الفرنساوية ووضعت ثقتها فيه وكانت قد رفضت الكثيرين من الذين عينوا قبله لتلك القنصلية. وانتخب رئيساً لجمعية القناصل في تلك المدينة وعددهم ستو وأربعون فكان ينوب عنهم في الاحتفالات التي يتعذر وجودهم جميعاً ويستقبل رئيس الجمهورية وكبار الوزراء والعلماء عند مرورهم ببوردو. ولما أقيم المعرض البحري العام في بوردو 1907 لانقضاء مئة سنة لايجاد البواخر كان روحي بك من المشاركين في إقامته، وأهدته بلدية بوردو وإدارة المعهد تذكاراً جميلاً، ومنحته الحكومة الفرنساوية نيشان (نحلة المعارف) الذهبية ووسام فرقة الشرف (لجيون دونور) وكان في أثناء ذلك ينشر المقالات الوافية في بعض المجلات العلمية ويعقل امضاءه فيها أو يذكر فيها اسم (المقدسي) أما أهم الصحف والمجلات العربية التي نشرت له في لبنان ومصر فهي الأهرام والمؤيد وطرابلس الشام ومجلة الهلال ومجلة المنار(14)
بقي الخالدي في منصبه قنصلاً عاماً في بوردو نحو عشر سنوات (15) إلى حين إعلان الدستور 24 تموز 1908 فرجع إلى القدس ليبدأ المرحلة الخامسة والأخيرة من سيرته، وانتخبه أهل القدس نائباً عنهم في البرلمان العثماني (المبعوثان) في نوفمبر/ تشرين ثاني ثم أعادو انتخابه ثاني مرة نيسان (ابريل) 1912(17)، وفي مجلس النواب (المبعوثان) انتخب نائباً للرئيس، ولما حُلّ المجلس صيف 1912م، رجع الخالدي إلى القدس، ولكنه ما لبث بعد حين أن سافر مرة أخرى إلى الأستانة وكان سفره الأخير فقد توفي فيها 16 أغسطس آب 1913/1331هـ على أثر حمى تيفوئيد أصابته ولم تمهله إلا أربع أيام وقد بلغ من العمر خمسين عاماً.
كتب الخالدي ومقالاته
تميزت كتابات الخالدي بالتنوع واختلاف العناوين وتعدد الموضوعات:(18)
المنشورة
- الرسالة في سرعة انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الاسلامي": وهي محاضرة ألقاها عام 189/1314هـ في دار الجمعيات العلمية في باريس ونشرتها جريدة طرابلس الشام، ثم أصدرتها في كتاب (65) صفحة، مطبعة البلاغة في طرابلس الشام 1314هـ عني بطبعه مدير جريدة طرابلس الشام صاحب امتيازها محمد كامل البحيري..
- "المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر محاضرة ألقاها في 1897/1315هـ في كتاب من 77 صفحة بمطبعة الأيتام بالقدس بنفقة محمود ثريا الخالدي، وليس على الكتاب ما يدل على سنة الطبع.
- "برتلو، العالم الكيماوي الشهير": مقالة قصيرة من 6 صفحات نشرتها مجلة الهلال سنة 10، 15 يناير 1902، ص 233- 238) بمناسبة احتفال فرنسا 24/11/1901 بمرور خمسين سنة على أول تأليف ألفه برتلو، ولم يذكر اسم كاتب المقالة، ثم ذكرت الهلال بعد بضعة أعداد جـ14 سنة 10، 15 أبريل 190 ص 421 في مطلع مقالة عن فكتور هوغو أن كاتبها وجيه مقيم في فرنسا وله اطلاع واسع على تاريخها وتراجم رجالها، وهو صاحب مقالة "برتلو" وقد عرف فيما بعد أن المقصود بالحديث روحي الخالدي.
"فيكتور هوغو" مقالة من عشرين صفحة نشرتها مجلة الهلال حـ14 سنة 10، 15 ابريل 1902 ص421_440.
- "فكتور هوغو وعلم الأدب عند الافرنج والعرب" سلسلة مقالات نشرتها مجلة الهلال ابتداء من جـ4 من سنة 11، 15 نوفمبر 1902، ص 103_108، وفيها يشار إلى أنه كاتب فاضل عرف قراء الهلال علمه وفضله مما قرأوه له عن فيكتور هوغو والمقالات التالية فذ وبرتلو في السنة الماضية ولو لم يعرفوا اسمه، ثم جمعت المقالة الأول عن فيكتور هوغو والمقالات التالية في كتاب بعنوان "تاريخ علم الأدب عند الأفرنج والعرب وفيكتور هوغو" في 272 صفحة نشرته الهلال سنة 1904م، ولم يصرح عليه باسم المؤلف باسم المؤلف بل اكتفى بالنص على أنه من تأليف "المقدسي" ثم أعيد طبع الكتاب 1912، وعليه اسم مؤلفه ورسمه.
- "الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" مقالتان نشرتهما الهلا. الأولى في حـ2ف سنة 17 بوردو)، والثانية في العدد التالي ديسمبر 1908 ص 131- 171، ذكر فيها أنها لروحي بك الخالدي المقدسي نائب القدس الشريف في مجلس المبعوثان. ثم جمعت المقالتان وصدرتا في كتاب طبع بمطبعة دار الهلال في عام 1909.
* "الكيمياء عند العرب" كتاب في 85 صفحة طبعته دار المعارف بمصر 1953.
المخطوط
- رحلة إلى جزيرة الأندلس: يشير روحي إلى هذا الكتاب الذ يصف فيه آثار تلك الجزيرة العربية النادرة في معرض تعداد كتبه في "المقدمة في المسألة الشرقية".
- كتاب علم الألسنة أو مقابلة اللغات: ورد ذكر هذا الكتاب في معرض تعداد كتبه في "المقدمة المسألة الشرقية"(19).
- المسألة الصهيونية (السيونيزم)(20).
- تاريخ الأمة الاسرائيلية وعلاقتها بغيرها من الأمم.
- كتاب في تراجم العائلة الخالدية.
- ورد في "المقدمة المسألة الشرقية ان الكتابين الأخيرين هما من الكتب التي عاجل الأجل روحي الخالدي قبل اتمامها".
- "الحبس في التهمة"(21)، ورد ذكره في الكتاب العربي الفلسطيني (الصادر عن لجنة الثقافة العربية في فلسطين في القدس عام 1946).
- تاريخ الشرق وامراءه(22).
* مجموعة من الرسائل بين الخالدي وعدد من أقرانه ومعاصريه.
شخصية الخالدي الثقافية
من خلال تتبع سيرة الخالدي والنتف اليسيرة المتفرقة التي وردت في بعض كتبه ومن تتبع تأليفه ومقالاته ودراستها وتحليلها تبرز عدة أمور تدل على شخصيته الثقافية وعوامل تكوينها، فقد تميز بحبه للمعرفة وحرصه على اغتراف العلم من مناهل متعددة، ثم هو لا يكفّ عن كتابة المقالات والبحوث والقاء المحاضرات والتردد على المكتبات ومجالسة العلماء من العرب والمستشرقين، ومن يتصفح كتبه يعجب لكثرة اشاراته واقتباساته من الكتب العربية الأصيلة قديمها وحديثها، وبين الثقافة الأوروبية العصرية، ويحيط بجوانبها المتعددة ويتسلح لهاتين الثقافتين بسلاحهما فيتجه إلى اتقان اللغتين التركية والفرنسية، فضلاً عن اتقانه للغته العربية، وهو لا يحصر نفسه في باب واحد من الثقافة فهو يجمع بين التاريخ والسياسة والاجتماع واللغة والنقد والأدب، يعرضها في مقالاته وكتبه فينم عن سعة ثقافته وشمولها.
لا بد من التنويه بسبقه إلى الكتابة في موضوعات متعددة، فهو أول من كتب كتاباً في اللغة العربية عن المسألة الشرقية، وهو أول من استقصى أحوال العالم الاسلامي وجمع مادة احصائية مستوفاة عن أقطاره، وهو من أوائل الأدباء العرب الذين كتبوا في الأدب المقارن، ومن أوائل الذين كتبوا في النقد الأدبي واستعمل هذا المصطلح ليقابل المصطلح الأجنبي. ومن أوائل كتاب العربية الذين عنوا بإظهار فضل العرب على الحضارة الأوروبية.
وهو في تحصيل المعرفة لا يكتفي بالدراسة النظرية والرجوع إلى الكتب وإنما يجالس الرجال ويستمع معهم ويحضر الاجتماعات والمهرجانات ويشارك فيها ويحاضر، ويبدو أن صلته بالعلماء بدأت في سن مبكرة وهو صغير وكان والده يهيء له سبل هذا الاتصال(23). وكان متفتح الذهن ثوي الملاحظة منذ صغره تمر به المشاهد والأحد فيطيل التأمل فيها ويستخرج منها دلالاتها، فكثرت نظراته الناقدة وآراؤه الذاتية(24). وكثيراً ما كان يعقب على ما يورد من أحكام أو أحداث بمشاهداته وتجاربه الشخصية(25)، إلا أن الخالدي لم يتميز بمقدرته الخطابية فقد كان ضعيف الصوت "وهو كاتباً أكثر منه خطيباً (26)".
تميز أسلوب الخالدي بسهولة العبارة وتناسقها، تبعث في القارئ لذة وشوقاً للمطالعة، وهو يتوخى الدقة العلمية في استعمال ألفاظه ولا يقر الزخرف والتكلّف ويرجح المعنى على اللفظ ويجعل من الألفاظ خدم للمعاني وأكثر ما تظهر قدرته على التعبير حتى يكتب عن معان نفسية دقيقة أو موضوعات لم تكن مصطلحاتها استقرت على أقلام الكتاب في زمنه(27)، ومع ذلك نلاحظ أن الخالدي يسجّع أحياناً ولكن في مقدمات بعض كتبه، دون أن يظهر عليه، التكلّف والافتعال(28). وهو مغرم بالستشهاد بالشعر، لا تكاد تسنح له مناسبة وإلا وذكر ما خطر له عندها من تلك الأبيات.
الخالدي ذو الوجوه الفكرية المتعددة
المدافع عن الحرية
كان الخالدي من الطبقة العليا، القنصل العثماني في بوردو، الوكيل الأول لمجلس المبعوثان ونائب القدس الشريف فيه، أي أن موقعه الاجتماعي كان إلى جانب المحافظة والتقليد مع ذلك فقد قدم في كتبه أمثلة من الآراء الحديثة والتفتح العقلي(29)، وكان يهيم بالحرية ويدعو إليها، وينافح في سبيلها بقلمه وكان حبه للحرية يشمل جميع جوانبها سواء كانت حرية فكرية أم سياسية أم اجتماعية أم دينية فهو لا يكاد يترك مناسبة يرد ذكرها في كتاباته دون أن يغتنمها للتعقيب عليها مشيداً بالحرية داعياً إليها ذاكراً فضائلها، وندّد بالاستبداد الذي اتسم به عهد السلطان عبد الحميد 1876- 1908 وجعله "منبع الشرور وسبب التأخر والانحطاط"(30)، وانتقد ما كان منتشراً في أجهزة الحكم من فساد وانحلال داخلي وخاصة في القصر(31)، وتحدث عما أصاب أحرار العثمانيين من اضطهاد وتحقير وعذاب حتى صار "أرباب الدناءة والفساد يتقربون (للمابين) بالتملق والتجسس على اخوانهم وأعمامهم وآبائهم"(32). وتأثر في آرائه ودعوته إلى الاصلاح والحرية بالفكر السياسي الفرنسي و بخاصة بمفكري الثورة الفرنسية مثل ديدرو ومنتسكيو وروسو فهو يعالج قضية الحرية مستشهداً بآرائهم ويسوق ما قاله مونتسكيو في أثر الحرية على الانتاج "ومن القواعد التي قررها الفيلسوف الشهير مونتسكيو مؤلف روح القوانين إن الأراضي تقل غلتها بالنسبة لحرية سكانها لا بالنسبة لخصبها فإذا كان الفلاح حراً عمّر الأرض الموات وجعلها مخصبة بعمله وحراثته، وإذا فقد الحرية أصبحت أرضه المخصبة مواتاً بسبب الظلم والاستبدداد(33).
وقد وصفه جرجي زيدان، وهو يقدم مقالته الأولى عن الانقلاب العثماني، بأنه "أحد كبار الأحرار العثمانيين" وأنه من "جملة الذين جاهدوا في سبيل الحرية"(34)، ولكنه كان مضطراً إلى كتمان اسمه أو التوقيع باسم مستعار (المقدسي) في كل ما كتب خلال عشر سنوات حين كان قنصلا عاماً للدولة العثمانية في بوردو 1898- 1908. وفسر جرجي زيدان (35)كتمان الخالدي اسمه "... ومع اعتدال لهجته وتجنبه الطعن والقرص فقد كان يخاف تأويل أقواله ولا تطاوعه حميته على السكوت ففضل كتمان اسمه". وكانت الآراء التجديدية في تلك الفترة تجلب النقمة الرسمية على صاحبها حتى لو ظلت في اطار الثقافة و"الأدب"(36)، وشرح جرجي زيدان بمناسبة اصدار الهلال الطبعة الثانية لكتاب الخالدي "تاريخ علم الأدب عند الأفرنج والعرب"(37)، أسباب عدم نشر توقيع الخالدي على الطبعة الأولى من الكتاب الصادرة 1904 "المؤلف يومئذ قنصل جنرال الدولة العثمانية في بوردو وقد نال الاستبداد من نفوس العثمانيين وقيد أقلام أحرارهم فلم نعد نسمع غير أصوات المتزلفين أو المتملقين وإذا تكلم الحرّ تكلم همساً وإذا كتب أخفى اسمه ولا سيما اذا كان من موظفي الحكومة،ولو كان موضوعه في الأدب أو الطب، لأن الجواسيس يحولون كل معنى إلى المكايد والدسائس".
وحين أعلن الدستور 1908 بكل ما حمل من معاني الحرية والمساواة "صار الخالدي من أعظم أركانه".
الباحث في التاريخ
يرد د، ناصر الأسد في كتابه عن روحي الخالدي(38) ان كتاباته رغم تنوعها واختلاف عناوينها وتعدد موضوعاتها يلفّها اطارعام هو اطار البحث التاريخي، فهو يبدي جهداً وصبراً على البحث والتقصي وحرصاً على الدقة ويتقيد بالأمانة العلمية من حيث الرجوع إلى المصادر المطبوعة والمخطوطة والمعاجم والأطالس من موسوعات واحصاءات واستخلاص ما يناسب موضوعاته من مادتها مع الاشارة إليها في حواشيه مع ذكر اسم المؤلف وعنوان الكتاب وسنة الطبع ومكانه. ويلحظ د. الأسد الصفة التاريخية في جميع ما كتبه فهو يرجع بكل موضوع إلى مقدماته وإلى أقدم ما يستطيع الرجوع إليه من تاريخ الموضوع، ففي كتابه "رسالة في سرعة انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الاسلامي" يبدأ بمقدمة تاريخية عن سيرة الرسوم ثم عرض سريع لانتشار الدين الاسلامي منذ بدء الدعوة ويعيد وسائل هذا الانتشار إلى الفتح، والدعوة والارشاد، التجارة والاتصال المباشر، بساطة الدين نفسه وقربه من طبائع النفس الانسانية وفطرتها، وتغلب على حديثه الثقة بأن الدين الاسلامي هو دين المستقبل. وفي القسم الثاني من الكتاب "نظرة عامة إلى العالم الاسلامي" تتبع الأقطار التي فيها مسلمون مع نبذة موجزة عن كل قطر من حيث موقعه الجغرافي وحدوده، ووضعه السياسي وأحواله العامة وأصل سكانه وتقسيماته الداخلية وانتهى من تتبعه إلى أن عدد المسلمين كان حينئذ عام (1896) 286.859.000 أي أن عدد المسلمين في العالم يتجاوز خمس مجموع النفوس البشرية، وقد استفاد الخالدي في كتابه من دراسته الحديثة في مدرسة العلوم السياسية بباريس وفي السوربون فاستعان ببعض العلوم التي جدّت حديثاً وفي ارسائه لأصول مصطلحاتها باللغة العربية (علم الاحصاء ستاتسيق) وعلم الاقتصاد السياسي (علم الثروة).
وفي بداية كتابه "المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر"، يذكر بدء اتصاله بموضوع المسألة الشرقية منذ ان كان طالباً في الاستانة(39)، إلى أن استكمل عنده الجمع والبحث، فبعث بما كتبه إلى الأهرام كي يطلع عليه قراءة العربية فيستفيدوا منه ويعلقوا عليه بآرائهم، وبعد أن يطرح الخالدي السؤال التالي "هل تحافظ أوروبا على بقاء المملكة العثمانية أو تتركها تنقرض وتزول؟". يعرف المسألة الشرقية بأنها "جدال سياسي على استبقاء الممالك المحرومة أو تقسيمها، وربما أفضى ذلك الجدال إلى قتال بين الدولة العثمانية لسعيها في المحافظة على بقائها- ودول انكلترة وفرنسا واستراليا وإيطاليا العاملين على حمايتها والمحافظة على كيانها لمنافعهم التجارية ولمنع توسع الدولة الروسية أو على أخذ كل نصيب منها عند حصول الاتفاق بينهم". أما عن أساس المسألة الشرقية فيعود إلى الأزمنة المتوسطة "عن منافسة الشرق للغرب وطمع سكان كل منهما في الاستيلاء على الآخر وكان الدين أعظم مروّج لهذه المناسبة. ثم تسلسل في تتبع تاريخي للأحداث إلى أن قال: فمنذ أوجدت الأتراك في أوروبا أو بعبارة أخرى منذ دخل الاسلام أوروبا من الشرق، وجدت مسألتنا الشرقية"، وانتقل إلى الحديث عن مواقع المسألة الشرقية أي "المواقع التي تسبب حدوث ارتباكاتها السياسية (البلقان والشرق الأوسط وساحل افريقيا الشمالي)، وتحدث عن قيمة هذه البلاد وأثرها في ميدان الحضارة ثم دخل مداخل تاريخية متشعبة فتحدث عن تاريخ الدولة العثمانية وتاريخ روسيا وعن "المحرك لطمع روسيا"، فأرجعه إلى سبين مادي وهو الافتقار إلى الثغور البحرية والثاني معنوي حسي وهو "الادعاء بميراث قياصرة الروم". ثم فصّل الحديث عن العلاقات الودية بين فرنسا والبلاد الإسلامية وختمه بموضوع "التجارة الفرنساوية في الشرق" ويقصد من ذلك بيان الأسباب التي دعت فرنسا لأن تقف مع الدولة العثمانية ضد روسيا، وقد حاول في كتابه أن يفسر مواقف الدول تفسيراً علمياً يوضح المصالح والمنافع التي تتحكم في توجيه سياستها ويبرز العوامل الاقتصادية التي كانت وراء تطور المسألة.
وفي كتابه "الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" ثم موضوعه على فصول قصيرة لها عناوين (29 فصلاً) بحث في الأول تحديد المصطلح فقال: ".. الانقلاب في اصطلاح المؤرخين تغير مهم في حكومة الدولة وقلب في قوانينها وهو غير الثورة التي بمعنى العصيان والخروج عن الطاعة والقيام على الحكومة المشروعة، والفرق بين الانقلاب Revolution والثورة Revote كبير، فإن الثورة كثيراً ما تضر بمنافع الأمة ومصالحها بخلاف الانقلاب فإنه مهما آلم الأمة ورضرضها فهو يخطو بها خطوة في التقدم". ثم قدّم ثلاثة فصول عن الاستبداد "يتولد الانقلاب من الاستبداد، والاستبداد أسيوي وليس اسلامياً ومنبع الاستبداد قصر الملك أو الخلافة" وبرأ الاسلام من الوصمة التي حاول بعض الأجانب الصاقها به، ووضح أن الاسلام دين الحرية والمساواة والديمقراطية وأن الاستبداد طارئ دحيل على الاسلام، ثم أدار فصلاً خاصاً عن الفساد في القصر العثماني، عنوانه "قصر السلطة العثمانية وتربية ولي العهد والكامريلا Camarilla" وهي كلمة اسبانية معناها جماعة المتنفذين في قصر الملك.وتتابعت الفصول عن التذمر الذي بدأ ينتشر بين بعض كبار رجال الدولة من الأحرار، وعن مشروعات الاصلاحات التي تعاقبت منذ صدارة مصطفى رشيد باشا حتى الحرب بين المابين وتركيا الفتاة، ثم عقد فصلاً عنوانه "ظهور المابين وتفشي الفساد والاختلال"، وأورد كثيراً من الأمثلة، ثم جاءت أربعة فصول عن "اتحاد الأرمن والأتراك في طلب الحرية"، "ونهضة جمعية الاتحاد والترقي وانتشارها"، "ونهاية الفساد والخراب في أحوال الدولة" و "انفجار بركان الحرية وحصول الانقلاب في 24 تموز". وختم البحث بخلاصة قال في آخرها: "فالفضل في حدوث الانقلاب العثماني بغير سفك دم ولا حصول اضطراب وقلاقل في المملكة انما هو للشريعة الاسلامية وما في أحكامها من العدالة الانسانية والمساواة في الحقوق".
وجاء في كتابه "الكيمياء عند العرب" من وحي مقالته في الهلال عن "برتلو" العالم الكيميائي الفرنسي التي لعلها أثارته إلى مواصلة البحث في تاريخ الكيمياء لمعرفة ما كان أحدثه العرب في هذا الميدان وما كان لهم من فضل في نقله إلى أوروبا. وهو يبدأ بتمهيد يبين أن غرضه من الكتاب بيان ما كان لععرب من أثر حقيقي في خدمة العلم وكشف الحقائق للوصل بالبشرية إلى درجة الكمال". وأقتبس أقوال بعض العلماء الافرنج الذين يقرون بفضل العرب في العلوم عامة، ثم عقد فصلاً عنوانه "جابر" ويقصد به الكيمياء لأن جابر بن حيان "إمام المدونين فيها" وقد بحث في معنى كلمة (الكيمياء) واشتقاقاتها وأصلها وتبين موضوعات علم الكيمياء وتتبع تاريخياً نشأة هذا العلم عند الأمم المختلفة. ثم عقد فصولاً متتالية عن عدد من العلماء المسلمين كان لهم فضل مشهود به على الكيمياء فتتبع حياتهم وجهودهم وتأليفهم وما ذكرته عنهم الكتب العربية والكتب الأجنبية مشيدة بفضلهم. ثم عقد فصولاً عن انتقال الكيمياء من العرب إلى الافرنج وعن علماء الأفرنج الذين أخذوا الكيمياء عن العرب في القرون الوسطى، وتحدث في فصول أخرى غن أمور شتى من الكيمياء مثلاً عن "الأكسير وانقلاب المعادل بعضها لبعض" وعلم "العناصر وعالم الأفلاك" ومذهبا ابن سينا والفارابي في الكيمياء، وفي كتابه يشرح الخالدي موضوعاته شرح المتصل بها العرف للبعض جوانبها ويستشهد بأقوال العلماء المسلمين ويتقبس من أقوال العلماء الأجانب. ومع غلبة السرد التاريخي على كتب الخالدي، فإنه لم يكتفي بمجرد السرد وذكر الأحداث المتعاقبة بل كثيراً ما كان يتوقف ليستخرج منها مدلولاتها الاجتماعية أو النفسية أو الاقتصادية ليتخذ كل ذلك أساساً لتفسير الأحداث وليربط المظاهر بأسبابها والنتائج بمقدماتها.