«روحي الخالدي»: الفرق بين المراجعتين

من دائرة المعارف الفلسطينية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
سطر ٧٧: سطر ٧٧:
 
ومع غلبة السرد التاريخي على كتب الخالدي، فإنه لم يكتفي بمجرد السرد وذكر الأحداث ‏المتعاقبة بل كثيراً ما كان يتوقف ليستخرج ‏منها مدلولاتها الاجتماعية أو النفسية أو الاقتصادية ‏ليتخذ كل ذلك أساساً لتفسير الأحداث وليربط المظاهر بأسبابها والنتائج بمقدماتها.‏
 
ومع غلبة السرد التاريخي على كتب الخالدي، فإنه لم يكتفي بمجرد السرد وذكر الأحداث ‏المتعاقبة بل كثيراً ما كان يتوقف ليستخرج ‏منها مدلولاتها الاجتماعية أو النفسية أو الاقتصادية ‏ليتخذ كل ذلك أساساً لتفسير الأحداث وليربط المظاهر بأسبابها والنتائج بمقدماتها.‏
  
 +
===رائد الأدب المقارن===
 +
في دراسة قيمة قام بها د. حسام الخطيب(40) يعتبر أن دور الخالدي الأول والأساسي هو في ‏حقل معرفي مهم جداً هو الأدب ‏المقارن ويعد كتابه "تاريخ علم الأدب عند الأفرنج والعرب ‏‎ ‎‏  ‏وفيكتور هوغو" هو كتاب في الأدب المقارن الصميم  ‏Propre‏ دون ‏أن يقلل هذا من قيمة ‏الدراسات التي تتبعت أراء الخالدي من أوائل الذين استعملوا النقد الأدبي ووضع في الهامش ‏مرادفها الفرنسي ‏‏Critique‏ ‏Litteraires‏. وبرأي د. حسام الخطيب أن الخالدي ‏كان مؤهلاً تأهيلاً معقولاً لأن يكون باحثاً مقارنياً، فقد كان يقول: "أنا ‏أذوق أدبي حسن واطلاع ‏جيد على الآداب العربية والأجنبية وكانت معرفته باللغات وافية وساعدته كذلك ظروفه الشخصية ‏من خلال ‏اقامته في فرنسا آواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين أي خلال الفترة التي بلغ فيها ‏تألق فرنسا الأدبي قمة من قممه العديدة. ‏وفي خلال اقامته تعرف على عدد من المستشرقين ‏الأوروبيين وذكرهم وذكر آرائهم في كتبه وربما كان لانتماء الخالدي إلى القدس ‏أثر في تطلعه ‏الواسع ونزعته المقارنية العالمية"(42)، هذا الحكم، يقول د. حسام الخطيب(43) لا يجوز أن يعني ‏اطلاقاً انكار ‏الجهود المشرفة لكتاب سبقوا الخالدي إلى الاتصال بالثقافة الأجنبية ومحاولة تقريبها ‏إلى القارئ العربي مستعينين أحياناً بعقد ‏المقارنات والموازنات الفكرية والأدبية والفنية مما قربهم ‏كثيراً من حق الأدب المقارن.‏
 +
 +
ولكن من خلال المقياس الخاص بالأدب المقارن يظهر روحي الخالدي في كتابه (تاريخ علم ‏الأدب) وعياً نظرياً لمفهومات التأثر ‏والتأثير وتبادل الأفكار والتقنيات مما لا نراه عند الكثيرين من ‏معاصريه، وبذلك يقترب من المفهوم الأصلي للأدب المقارن بوصفه ‏‏(تاريخ العلاقات الأدبية ‏الدولية) على نحو ما أكده أساتذة المدرسة الفرنسية الأوائل.
 +
 +
كان السبب الذي دعا الخالدي إلى تأليف كتابه وما رآه من احتفال الفرنسيين في 26 شباط ‏‏(فبراير) 1902 (باليوبيل القرني) أي ‏مرور قرن على ميلاد هوغو، فأراد التعريف بحياة الشاعر ‏وأدبه وتأليفه لما رأى من منزله لدى الأمم المختلفة فكتب مقالة هي أصل ‏الكتاب وهي التي ‏أوحت بفكرته، لأن حديثه عن فيكتور هوغو وطريقته الأدبية وتأثره بمن سبقه وتأثيره في غيره، ‏كل ذلك أوحى ‏للخالدي بالتوسع في الحديث عن الأساليب الأدبية المختلفة عند العرب وغيرهم ‏من الأمم وعن تأثير الأمم بعضها في بعض وخاصة ‏تأثير العرب عند الإفرنج. ‏
 +
 +
ويشير تصدير الكتاب أي الشرح المثبت على الغلاف بعد العنوان، إلى أن الكتاب يعتمد ‏على المقابلة والمقارنة القائمة على التأثر ‏والتأثير ‏‎]‎وهو يشمل على مقدمات تاريخية واجتماعية ‏في علم الأدب عند الافرنج ما يقابله من ذلك عند العرب ابان تمدنهم إلى ‏عصورهم الوسطى وما ‏اقتبسه الافرنج عنهم من الأدب والشعر في نهضتهم الأخيرة وخصوصاً على يد فيكتور هوغو‎[‎‏ ‏والخالدي ‏ينظر إلى الأدب بمعناه الواسع العام ولا يقصره على النثر الفني والشعر كما قصره ‏القدماء "فقد اشتمل على ضروب لم يعدها النقاد ‏القدامى أدباً كالأغاني والروايات والقصص ‏والتاريخ والسياسة والرحلة وهذا التعريف مأخوذ من التعاريف الغربية"(44)، ولا دراكه ‏إن البلاغة لا ‏تختص باللسان العربي وحده كما يؤمن بأن على الأدب "لا يكمل للمتبحر فيه إلا بعد أن ينظر ‏في أدب الأمم المتمدنة ‏ولو نظرة عامة يطلع بها على مجمل تاريخ أدبهم وعلى بعض ما ترجم ‏من مؤلفات المشاهير من كتبهم"، ولذا فقد حرص الخالدي في ‏كتابه على شرح المذاهب في الأدب ‏العربي، مع المقارنة باستمرار بين الأفكار والتقنيات والأساليب العربية والافرنجية، وتتوفر في ‏‏كتاب تاريخ علم الأدب سلسلة غنية من المقابلات العربية والافرنجية الفكرية والأدبية وأحياناً ‏المعتقدية تدل على توفر حسن البحث ‏المقارني والذوق النقدي، ومن الأمثلة "ما اقتبسه الافرنج ‏من قواعد الشعر العربي" في الفصل الرابع عشر، ويؤكد على أن الظروف ‏التاريخية والاجتماعية ‏والسياسية والثقافية أتاحت الفرصة لانتقال الأفكار والأساليب والتقنيات إلى الفرنجة في القرن ‏الحادي عشر ‏من خلال الاتصال العربي الفرنسي الحربي وغير الحربي، في شمال اسبانيا ‏وجنوب فرنسا، وهو يحرص على رسم خارطة للجو ‏السياسي والاجتماعي الذي دارت فيه ‏المبادلات الأدبية في تلك الفترة ويؤكد باستمرار على تأثير المعتقدات الدينية من الأساطير ‏‏والأغاني والتصرفات الاجتماعية في الأفكار والأساليب الأدبية. وهكذا نجح في رسم خطوط ‏كبرى لنواحي التماثل والاختلاف من ‏شأنها أن توحي بأن التجربة التاريخية الاجتماعية المتشابهة ‏تنتج أفكاراً وآداباً متشابهة(45)، كما استطاع أن يربط بين المستوى ‏اللغوي وبين المستوى ‏الحضاري للأمة فالأمة كلما ارتفعت في سلم الحضارة كان لسانها أبلغ وأدبها أوسع وأكمل.
 +
 +
وواضح أن توسع الخالدي في فيكتور هوغو ليس لأنه مثال خاص للتأثر بل لما يمكن أن ‏يقدمه شعر هوغو من تأكيد على التشابه بين ‏الأدبين العربي والافرنجي وكذلك على اللون ‏الخاص لهذا الشاعر مما يمكن أن يفيد منه القراء العرب ومن هنا كان وعده في المقدمة ‏بترجمة ‏مقطوعات لفيكتور هوغو ومقارنتها بمقطوعات للشعراء العرب، مثل المتنبي والمعري، وكان ‏واضحاً أنه يعتقد أن التجربة ‏الأدبية الغربية وتجربة شاعره المفضل فيكتور هوغو بوجه خاص ‏كفيلة بأن تغني الأدب العربي الحديث وأن تعطيه أنفاساً جديدة، ‏وقد بذل الخالدي جهداً لتقديم ‏ترجمات لمجموعة مختارة من أثار فيكتور هوغو في الشعر والنثر أورد بعضها كاملة وأورد مقاطع ‏‏مختارة من بعض آخر فكان من أوائل الذين فتحوا النافذة العربية على الآفاق الفرنسية الأدبية. ‏وكانت طريقته أن يستعرض قصائد ‏فيكتور هوغو وأعماله الفنية مستهلاً كل عمل بتعريف عام ‏يتمثله في ظروفه السياسية والاجتماعية ومنتقلاً بعد ذلك إلى التعليق عليه ‏وبسط ما يحويه من ‏الفوائد الفلسفية والأدبية ولا سيما من ناحية ما يوحيه من تشابه وخلاف في الشكل والمضمون ‏بينه وبين بعض ‏الآثار العربية.
 +
 +
وتبدو ترجمته ناجحة لأنها قائمة على التعمق في النص الأصلي وفهم مراميه فهو ليس ‏مترجماً حرفياً بل أديب متذوق ولنا أن نتصور ‏ما عاناه الخالدي في مجال ترجمة المصطلحات ‏الأجنبية الفنية والبلاغية، هذا الجهد الذي قدمه يضعه في مصاف رواد الترجمة ولا ‏سيما من ‏ناحية اصراره على فهم المصطلح الأصلي بلغته وشرح معنى هذا المصطلح جنباً إلى جنب مع ‏اقتراح الترجمة. ‏
  
  
 
[[تصنيف:شخصيات وأعلام]]
 
[[تصنيف:شخصيات وأعلام]]

مراجعة ١٠:٣٤، ٥ أبريل ٢٠١٨

روحي الخالدي (1864- 1913)‏‎: في ‎بيت عريق من بيوتات العلم ولد بن ياسين بن محمد علي بن محمد ‏بن خليل بن صنع الله الخالدي المقدسي(1)، وهو لا يعد من أعلام ‏عرب فلسطين بل من ‏أعلام الأمة العربية، ولكنه لم ينل من الاهتمام ما يستحقةه بوصفه من زعماء النهضه ‏الفكرية والأدبية الحديثة.‏

وقد كتب لنفسه سيرة ذاتية نشرتها 1908 مجلة الأصمعي التي كانت تصدر في ‏يافا... ولخصها جرجي زيدان ونشرها في مجلة ‏الهلال(2)، ونشرت مجلة المنادى التي ‏كانت تصدر في القدس 1908 سيرة مفصلة للخالدين نقلها ناشر كتاب "المقدسة في ‏المسألة ‏الشرقية"(3) وصدّر بها الكتاب(4). ‏

وتنقسم سيرة المترجم إلى مراحل خمسة‎ ‎‏(5) مرحلة دراسته الابتدائية والثانوية ــ مرحلة ‏دراساته العليا في الأستانة وباريس _ ‏مرحلة عمله الأكاديمي في باريس مرحلة عمله ‏قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في مدينة بوردو في فرنسا ـ مرحلة انتخابه نائباً عن ‏القدس ‏في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) في الأستانة وانتخابه نائباً لرئيس هذا المجلس.‏

ميلاده ونشأته

ولد روحي الخالدي في مدينة القدس في مجلة باب السلسة (أحد أبواب الحرم ‏الشريف) عام1281هـ/ 1864م. وقد انتخب والده ‏ياسين في عهد ولاية راشد باشا والي ‏سورية وأحد الزعماء الاصلاحيين (بدأت ولايته 1866) لينوب عن أهل القدس في ‏المجلس ‏العمومي ببيروت، ثم تولى نيابة طرابلس الشام، وكان يصطحب أفراد أسرته ‏حيثما اتجه، ولما عزل راشد باشا عن ولاية سورية عاد ‏ياسين إلى القدس والتحق روحي ‏بالكتاب ومدارس الحكومة الابتدائية، وكان عمره حينئذ نحو سبع سنوات.‏

ولما تولى مدحت باشا ولاية سورية 1878 أخذ يجمع من يثق باخلاصهم ونزاهتهم ‏ويعيدهم إلى مراكزهم، وعين ياسين الخالدي ‏قاضياً شرعياً في مدينة نابلس فالنحق ابنه ‏روحي بالمكتب الرشدي فيها (يعادل الصفوف الثلاثة الأخيرة من المرحلة الابتدائية). ‏وحين ‏نقل قاضياً لطرابلس الشام التحق ابنه بالمدرسة الوطنية(6). وقبل نهاية هذه ‏المرحلة بقليل صحب روحي عمه عبد الرحمن نافذ في ‏زيارة إلى الأستانة حيث عرفه ‏الأخير إلى شرم شيخ الاسلام الذي رغب في تشجيع الفتى على طلب العلم "فانعم عليه ‏برتبة (رؤس ‏بروسة) وهي أول درجة في سلم المراتب العلمية وكسوتها جبة زرقاء مطرزة ‏بالقصب عند القبة وعمار عليها شريط مقصب وبلقب ‏صاحبها ب(قدرة العلماء المحققين) ‏ويعدّ مدرسا في مدرسة رابعة الخير في مدينة بروسة، ولم يكن روحي حينئذ يبلغ السادسة ‏عشر ‏وهو تلميذ وليس مدرساً وكان ذلك في 15 ربيع الأول 1297هـ/ 1880م.

تعليمه وعمله

وحين عاد روحي إلى القدس أخذ يحضر دروس المسجد الأقصى ويتلقى فيه علوم ‏الفقه والتوحيد والحديث والنحو والصرف ‏والمنطق والبيان والبديع، ويتردد على مدرسة ‏الأليانس(7)، ومدرسة الرهبان البيض (الصلاحية)(8)، ليتقن اللغة الفرنسية وليطلع ‏عن ‏بعض جوانب الثقافات الدينية والأجنبية المختلفة. ‏ وأخذ يتصل بالمفكرين من سياح الفرنجة الوافدين على بيت المقدس ويلاحظ أمورهم ‏‏"وسمع من بعضهم خطباً في تاريخ الأرض ‏المقدسة وما كانت عليه من العمران فأدرك ‏الفرق بين الشرق والغرب"(9)، ثم التحق بالمدرسة السلطانية في بيروت (تعادل الثانوية) ‏‏وظل فيها إلى حين انحلالها(10)، فعاد إلى القدس وواصل حضور حلقات الدرس في ‏المسجد الأقصى. وفي نهاية هذه المرحلة انتظم ‏روحي في (سلك خدّام الحكومة في ‏الدوائر العدلية)، وكان ذلك كما يبدو، بضغط من والديه، بينما كان روحي شديد الرغبة ‏في متابعة ‏دراساته في الأستانة عن طريق البحر، لكنه أرغم على العودة إلى القدس بعد ‏أن وصل إلى ظهر الباخرة في يافا(11).

وعيّن روحي، بعيد عودته إلى القدس، "باش كاتب" لمحكمة غزة، وبدل أن يذهب إلى ‏مقر عمله لجديد تمكن من الافلات والسفر إلى ‏الأستانة حيث بدأ المرحلة الثانية من ‏سيرته فدخل المكتب المُلْكي الشاهاني (وكان معهداً عالياً للعلوم السياسية والإدارة). ولم ‏يقتصر ‏على الكتب المقررة، بل أن نهمه إلى المعرفة دفعه إلى قراءة كتب سياسية تمنعها ‏إدارة المدرسة، فناله العقاب المدرسي. وبقي في ‏المكتب المُلْكي ستة أعوام ‏‏1887/1983، أخذ في نهايتها الشهادة العالية، وعند عودته إلى القدس عُيّن معلماً ‏في "المكتب الإعدادي" ‏فيها، لكنه "رأى في نفسه أنه أجدر بان يتولى وظيفة أعلى من ‏هذه"، فرجع إلى الأستانة وطلب أن يعين "قائم مقاماً" لأحد الأقضية، ‏ولكن عيل صبره ‏وهو ينتظر صدورالأمر بتعيينه، وساءه ما لقي من مساعي المفسدين والجواسيس، ‏فسافر إلى باريس وهو "لا ‏يعرف أحداً فيها". ثم عاد إلى الأستانة وأخذ يتردد على ‏مجالس السيد جمال الدين الأفغاني، وكان الأفغاني تحت رقابة مشددة من قبل ‏أجهزة ‏الأمن العثماني واشتدت المراقبة على الذين يحضرون مجلسه. فاضطر روحي نفسه إلى ‏‏"هجر البلاد العثمانية" لفرنسا، ودخل ‏مدرسة العلوم السياسية في باريس، وأتم دروسه في ‏ثلاثة أعوام ثم التحق بدار الفنون العالية (السوربون) ودرس فيها فلسفة العلوم ‏الاسلامية ‏والاداب الشرقية، فاطلع على ضروب مختلفة من الثقافة الحديثة والمعارف العصرية، أما ‏أهم الأستاذة الفرنسيين الذين ‏يذكر فضلهم عليه في فهم "البيرفراندال" المتخصص ‏والمحاضر في المسألة الشرقية، وشيخ التاريخ السياسي "البيرسورل ‏Albert ‎‎Sorel"‎‏" والمؤرخ ووزير المعارف السيد الفرد رامبو ‏Alfred Rambaud‏ ‏‎ ‎والمستشرق اللغوي المتخصص في اللغة الحميرية ‏هارتويغ ديرا بنورغ ‏‎ Hartwig ‎Derenbourg ‎‏ والعالم الشهير بعلم الإحصاء ليفاسور ‏Levasseur‏.

وعند نهاية دراساته الجامعية بدأت المرحلة الثالثة من سيرة الخالدي وهي مرحلة ‏عمله الأكاديمي، فقد عين مدرساً في ‏جمعية اللغات الاجنبية في باريس(12). وأخذ يعقد ‏الندوات العلمية "قونفرانس"، وصار يدعي إلى إلقاء المحاضرات بالعربية وشرح ‏المسائل ‏الشرقية والاسلامية والعربية، ولعله أول من فعل ذلك في الجمعية من العرب، ودخل ‏المسائل الشرقية والاسلامية والعربية، ‏ودخل عضواً في مؤتمر المستشرقين المنعقد في ‏باريس 1897 (كان قد بدا تعرّفه بالمستشرقين وهو طالب في السوربون وأصبح له ‏بينهم ‏نشاط علمي)، وأخذت الصحف تنشر مادة محاضراته، وقبلاً كانت تنشر مثل هذا لجمال ‏الدين الأفغاني(13)، كما نشرت ‏الصحف العربية مقتطفات من محاضراته وعدداً من ‏مقالاته.‏

وتبدأ المرحلة الرابعة من سيرة الخالدي بعودته إلى الأستانة 1316/1989 حيث ‏صدرت الإرادة السنية بتعيينه قنصلاً عاماً ‏في مدينة بوردو وتوابعها، فرحبت به حكومة ‏الجمهورية الفرنساوية ووضعت ثقتها فيه وكانت قد رفضت الكثيرين من الذين عينوا ‏قبله ‏لتلك القنصلية. وانتخب رئيساً لجمعية القناصل في تلك المدينة وعددهم ستو وأربعون ‏فكان ينوب عنهم في الاحتفالات التي يتعذر ‏وجودهم جميعاً ويستقبل رئيس الجمهورية ‏وكبار الوزراء والعلماء عند مرورهم ببوردو. ولما أقيم المعرض البحري العام في بوردو ‏‏‏1907 لانقضاء مئة سنة لايجاد البواخر كان روحي بك من المشاركين في إقامته، ‏وأهدته بلدية بوردو وإدارة المعهد تذكاراً جميلاً، ‏ومنحته الحكومة الفرنساوية نيشان (نحلة ‏المعارف) الذهبية ووسام فرقة الشرف (لجيون دونور) وكان في أثناء ذلك ينشر المقالات ‏‏الوافية في بعض المجلات العلمية ويعقل امضاءه فيها أو يذكر فيها اسم (المقدسي) أما ‏أهم الصحف والمجلات العربية التي نشرت له ‏في لبنان ومصر فهي الأهرام والمؤيد ‏وطرابلس الشام ومجلة الهلال ومجلة المنار(14)‏

بقي الخالدي في منصبه قنصلاً عاماً في بوردو نحو عشر سنوات (15) إلى حين ‏إعلان الدستور 24 تموز 1908 فرجع ‏إلى القدس ليبدأ المرحلة الخامسة والأخيرة من ‏سيرته، وانتخبه أهل القدس نائباً عنهم في البرلمان العثماني (المبعوثان) في نوفمبر/ ‏‏تشرين ثاني ثم أعادو انتخابه ثاني مرة نيسان (ابريل) 1912(17)، وفي مجلس النواب ‏‏(المبعوثان) انتخب نائباً للرئيس، ولما حُلّ ‏المجلس صيف 1912م، رجع الخالدي إلى ‏القدس، ولكنه ما لبث بعد حين أن سافر مرة أخرى إلى الأستانة وكان سفره الأخير فقد ‏‏توفي فيها 16 أغسطس آب 1913/1331هـ على أثر حمى تيفوئيد أصابته ولم تمهله ‏إلا أربع أيام وقد بلغ من العمر خمسين عاماً.

‏كتب الخالدي ومقالاته

تميزت كتابات الخالدي بالتنوع واختلاف العناوين وتعدد الموضوعات:(18)

المنشورة

  • الرسالة في سرعة انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الاسلامي": وهي محاضرة ألقاها ‏عام 189/1314هـ في دار الجمعيات ‏العلمية في باريس ونشرتها جريدة طرابلس ‏الشام، ثم أصدرتها في كتاب (65) صفحة، مطبعة البلاغة في طرابلس الشام 1314هـ ‏‏عني بطبعه مدير جريدة طرابلس الشام صاحب امتيازها محمد كامل البحيري..‏
  • ‏"المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر ‏محاضرة ألقاها في 1897/1315هـ في كتاب ‏من 77 صفحة بمطبعة الأيتام بالقدس ‏بنفقة محمود ثريا الخالدي، وليس على الكتاب ما يدل على سنة الطبع. ‏
  • "برتلو، العالم الكيماوي الشهير": مقالة قصيرة من 6 صفحات نشرتها مجلة الهلال سنة ‏‏10، 15 يناير 1902، ص 233- 238) ‏بمناسبة احتفال فرنسا 24/11/1901 ‏بمرور خمسين سنة على أول تأليف ألفه برتلو، ولم يذكر اسم كاتب المقالة، ثم ذكرت ‏الهلال بعد ‏بضعة أعداد جـ14 سنة 10، 15 أبريل 190 ص 421 في مطلع مقالة ‏عن فكتور هوغو أن كاتبها وجيه مقيم في فرنسا وله اطلاع ‏واسع على تاريخها وتراجم ‏رجالها، وهو صاحب مقالة "برتلو" وقد عرف فيما بعد أن المقصود بالحديث روحي ‏الخالدي.‏

‏"فيكتور هوغو" مقالة من عشرين صفحة نشرتها مجلة الهلال حـ14 سنة 10، 15 ‏ابريل 1902 ص421_440.‏

  • "فكتور هوغو وعلم الأدب عند الافرنج والعرب" سلسلة مقالات نشرتها مجلة الهلال ابتداء ‏من جـ4 من سنة 11، 15 نوفمبر 1902، ‏ص 103_108، وفيها يشار إلى أنه ‏كاتب فاضل عرف قراء الهلال علمه وفضله مما قرأوه له عن فيكتور هوغو والمقالات ‏التالية ‏فذ وبرتلو في السنة الماضية ولو لم يعرفوا اسمه، ثم جمعت المقالة الأول عن ‏فيكتور هوغو والمقالات التالية في كتاب بعنوان "تاريخ ‏علم الأدب عند الأفرنج والعرب ‏وفيكتور هوغو" في 272 صفحة نشرته الهلال سنة 1904م، ولم يصرح عليه باسم ‏المؤلف باسم ‏المؤلف بل اكتفى بالنص على أنه من تأليف "المقدسي" ثم أعيد طبع ‏الكتاب 1912، وعليه اسم مؤلفه ورسمه.‏
  • "الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" مقالتان نشرتهما الهلا. الأولى في حـ2ف سنة 17 ‏بوردو)، والثانية في العدد التالي ديسمبر 1908 ‏ص 131- 171، ذكر فيها أنها ‏لروحي بك الخالدي المقدسي نائب القدس الشريف في مجلس المبعوثان. ثم جمعت ‏المقالتان وصدرتا ‏في كتاب طبع بمطبعة دار الهلال في عام 1909.‏

‏* "الكيمياء عند العرب" كتاب في 85 صفحة طبعته دار المعارف بمصر 1953.

المخطوط

  • رحلة إلى جزيرة الأندلس: يشير روحي إلى هذا الكتاب الذ يصف فيه آثار تلك الجزيرة العربية ‏النادرة في معرض تعداد كتبه في ‏‏"المقدمة في المسألة الشرقية".‏
  • كتاب علم الألسنة أو مقابلة اللغات:‏ ورد ذكر هذا الكتاب في معرض تعداد كتبه في "المقدمة المسألة الشرقية"(19).‏
  • المسألة الصهيونية (السيونيزم)(20).
  • تاريخ الأمة الاسرائيلية وعلاقتها بغيرها من الأمم.
  • كتاب في تراجم العائلة الخالدية.‏
  • ورد في "المقدمة المسألة الشرقية ان الكتابين الأخيرين هما من الكتب التي عاجل الأجل روحي ‏الخالدي قبل اتمامها".‏
  • "الحبس في التهمة"(21)، ورد ذكره في الكتاب العربي الفلسطيني (الصادر عن لجنة الثقافة العربية ‏في فلسطين في القدس عام ‏‏1946).
  • تاريخ الشرق وامراءه(22).

‏* مجموعة من الرسائل بين الخالدي وعدد من أقرانه ومعاصريه.‏

شخصية الخالدي الثقافية

من خلال تتبع سيرة الخالدي والنتف اليسيرة المتفرقة التي وردت في بعض كتبه ومن تتبع ‏تأليفه ومقالاته ودراستها وتحليلها تبرز عدة ‏أمور تدل على شخصيته الثقافية وعوامل تكوينها، فقد ‏تميز بحبه للمعرفة وحرصه على اغتراف العلم من مناهل متعددة، ثم هو لا ‏يكفّ عن كتابة المقالات ‏والبحوث والقاء المحاضرات والتردد على المكتبات ومجالسة العلماء من العرب والمستشرقين، ومن ‏يتصفح ‏كتبه يعجب لكثرة اشاراته واقتباساته من الكتب العربية الأصيلة قديمها وحديثها، وبين الثقافة ‏الأوروبية العصرية، ويحيط بجوانبها ‏المتعددة ويتسلح لهاتين الثقافتين بسلاحهما فيتجه إلى اتقان ‏اللغتين التركية والفرنسية، فضلاً عن اتقانه للغته العربية، وهو لا يحصر ‏نفسه في باب واحد من ‏الثقافة فهو يجمع بين التاريخ والسياسة والاجتماع واللغة والنقد والأدب، يعرضها في مقالاته وكتبه ‏فينم عن ‏سعة ثقافته وشمولها.

لا بد من التنويه بسبقه إلى الكتابة في موضوعات متعددة، فهو أول من كتب كتاباً في اللغة ‏العربية عن المسألة الشرقية، وهو أول من ‏استقصى أحوال العالم الاسلامي وجمع مادة احصائية ‏مستوفاة عن أقطاره، وهو من أوائل الأدباء العرب الذين كتبوا في الأدب ‏المقارن، ومن أوائل الذين ‏كتبوا في النقد الأدبي واستعمل هذا المصطلح ليقابل المصطلح الأجنبي. ومن أوائل كتاب العربية ‏الذين ‏عنوا بإظهار فضل العرب على الحضارة الأوروبية.

وهو في تحصيل المعرفة لا يكتفي بالدراسة النظرية والرجوع إلى الكتب وإنما يجالس الرجال ‏ويستمع معهم ويحضر الاجتماعات ‏والمهرجانات ويشارك فيها ويحاضر، ويبدو أن صلته بالعلماء ‏بدأت في سن مبكرة وهو صغير وكان والده يهيء له سبل هذا ‏الاتصال(23). وكان متفتح الذهن ثوي ‏الملاحظة منذ صغره تمر به المشاهد والأحد فيطيل التأمل فيها ويستخرج منها دلالاتها، فكثرت ‏نظراته ‏الناقدة وآراؤه الذاتية(24). وكثيراً ما كان يعقب على ما يورد من أحكام أو أحداث بمشاهداته وتجاربه ‏الشخصية(25)، إلا أن ‏الخالدي لم يتميز بمقدرته الخطابية فقد كان ضعيف الصوت "وهو كاتباً أكثر ‏منه خطيباً (26)".

تميز أسلوب الخالدي بسهولة العبارة وتناسقها، تبعث في القارئ لذة وشوقاً للمطالعة، وهو ‏يتوخى الدقة العلمية في استعمال ألفاظه ‏ولا يقر الزخرف والتكلّف ويرجح المعنى على اللفظ ويجعل ‏من الألفاظ خدم للمعاني وأكثر ما تظهر قدرته على التعبير حتى يكتب ‏عن معان نفسية دقيقة أو ‏موضوعات لم تكن مصطلحاتها استقرت على أقلام الكتاب في زمنه(27)، ومع ذلك نلاحظ أن الخالدي ‏‏يسجّع أحياناً ولكن في مقدمات بعض كتبه، دون أن يظهر عليه، التكلّف والافتعال(28). وهو مغرم ‏بالستشهاد بالشعر، لا تكاد تسنح له ‏مناسبة وإلا وذكر ما خطر له عندها من تلك الأبيات.‏

الخالدي ذو الوجوه الفكرية المتعددة

المدافع عن الحرية

كان الخالدي من الطبقة العليا، القنصل العثماني في بوردو، الوكيل الأول لمجلس المبعوثان ‏ونائب القدس الشريف فيه، أي أن موقعه ‏الاجتماعي كان إلى جانب المحافظة والتقليد مع ذلك ‏فقد قدم في كتبه أمثلة من الآراء الحديثة والتفتح العقلي(29)، وكان يهيم بالحرية ‏ويدعو إليها، ‏وينافح في سبيلها بقلمه وكان حبه للحرية يشمل جميع جوانبها سواء كانت حرية فكرية أم سياسية ‏أم اجتماعية أم دينية ‏فهو لا يكاد يترك مناسبة يرد ذكرها في كتاباته دون أن يغتنمها للتعقيب ‏عليها مشيداً بالحرية داعياً إليها ذاكراً فضائلها، وندّد بالاستبداد ‏الذي اتسم به عهد السلطان عبد ‏الحميد 1876- 1908 وجعله "منبع الشرور وسبب التأخر والانحطاط"(30)، وانتقد ما كان ‏منتشراً ‏في أجهزة الحكم من فساد وانحلال داخلي وخاصة في القصر(31)، وتحدث عما أصاب ‏أحرار العثمانيين من اضطهاد وتحقير ‏وعذاب حتى صار "أرباب الدناءة والفساد يتقربون (للمابين) ‏بالتملق والتجسس على اخوانهم وأعمامهم وآبائهم"(32). وتأثر في آرائه ‏ودعوته إلى الاصلاح ‏والحرية بالفكر السياسي الفرنسي و بخاصة بمفكري الثورة الفرنسية مثل ديدرو ومنتسكيو وروسو ‏فهو يعالج ‏قضية الحرية مستشهداً بآرائهم ويسوق ما قاله مونتسكيو في أثر الحرية على الانتاج ‏‏"ومن القواعد التي قررها الفيلسوف الشهير ‏مونتسكيو مؤلف روح القوانين إن الأراضي تقل غلتها ‏بالنسبة لحرية سكانها لا بالنسبة لخصبها فإذا كان الفلاح حراً عمّر الأرض ‏الموات وجعلها ‏مخصبة بعمله وحراثته، وإذا فقد الحرية أصبحت أرضه المخصبة مواتاً بسبب الظلم ‏والاستبدداد(33).

وقد وصفه جرجي زيدان، وهو يقدم مقالته الأولى عن الانقلاب العثماني، بأنه "أحد كبار ‏الأحرار العثمانيين" وأنه من "جملة الذين ‏جاهدوا في سبيل الحرية"(34)، ولكنه كان مضطراً إلى ‏كتمان اسمه أو التوقيع باسم مستعار (المقدسي) في كل ما كتب خلال عشر ‏سنوات حين كان ‏قنصلا عاماً للدولة العثمانية في بوردو 1898- 1908. وفسر جرجي زيدان (35)كتمان ‏الخالدي اسمه "... ومع ‏اعتدال لهجته وتجنبه الطعن والقرص فقد كان يخاف تأويل أقواله ولا ‏تطاوعه حميته على السكوت ففضل كتمان اسمه". وكانت ‏الآراء التجديدية في تلك الفترة تجلب ‏النقمة الرسمية على صاحبها حتى لو ظلت في اطار الثقافة و"الأدب"(36)، وشرح جرجي ‏زيدان ‏بمناسبة اصدار الهلال الطبعة الثانية لكتاب الخالدي "تاريخ علم الأدب عند الأفرنج والعرب"(37)، ‏أسباب عدم نشر توقيع ‏الخالدي على الطبعة الأولى من الكتاب الصادرة 1904 "المؤلف يومئذ ‏قنصل جنرال الدولة العثمانية في بوردو وقد نال الاستبداد من ‏نفوس العثمانيين وقيد أقلام ‏أحرارهم فلم نعد نسمع غير أصوات المتزلفين أو المتملقين وإذا تكلم الحرّ تكلم همساً وإذا كتب ‏أخفى اسمه ‏ولا سيما اذا كان من موظفي الحكومة،ولو كان موضوعه في الأدب أو الطب، لأن ‏الجواسيس يحولون كل معنى إلى المكايد ‏والدسائس".‏

وحين أعلن الدستور 1908 بكل ما حمل من معاني الحرية والمساواة "صار الخالدي من ‏أعظم أركانه".

‏الباحث في التاريخ

يرد د، ناصر الأسد في كتابه عن روحي الخالدي(38) ان كتاباته رغم تنوعها واختلاف ‏عناوينها وتعدد موضوعاتها يلفّها اطارعام ‏هو اطار البحث التاريخي، فهو يبدي جهداً وصبراً على ‏البحث والتقصي وحرصاً على الدقة ويتقيد بالأمانة العلمية من حيث الرجوع ‏إلى المصادر ‏المطبوعة والمخطوطة والمعاجم والأطالس من موسوعات واحصاءات واستخلاص ما يناسب ‏موضوعاته من مادتها ‏مع الاشارة إليها في حواشيه مع ذكر اسم المؤلف وعنوان الكتاب وسنة ‏الطبع ومكانه. ويلحظ د. الأسد الصفة التاريخية في جميع ما ‏كتبه فهو يرجع بكل موضوع إلى ‏مقدماته وإلى أقدم ما يستطيع الرجوع إليه من تاريخ الموضوع، ففي كتابه "رسالة في سرعة ‏‏انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الاسلامي" يبدأ بمقدمة تاريخية عن سيرة الرسوم ثم عرض ‏سريع لانتشار الدين الاسلامي منذ ‏بدء الدعوة ويعيد وسائل هذا الانتشار إلى الفتح، والدعوة ‏والارشاد، التجارة والاتصال المباشر، بساطة الدين نفسه وقربه من طبائع ‏النفس الانسانية ‏وفطرتها، وتغلب على حديثه الثقة بأن الدين الاسلامي هو دين المستقبل. وفي القسم الثاني من ‏الكتاب "نظرة عامة ‏إلى العالم الاسلامي" تتبع الأقطار التي فيها مسلمون مع نبذة موجزة عن كل ‏قطر من حيث موقعه الجغرافي وحدوده، ووضعه ‏السياسي وأحواله العامة وأصل سكانه وتقسيماته ‏الداخلية وانتهى من تتبعه إلى أن عدد المسلمين كان حينئذ عام (1896) ‏‏286.859.000 ‏أي أن عدد المسلمين في العالم يتجاوز خمس مجموع النفوس البشرية، وقد استفاد الخالدي في ‏كتابه من دراسته ‏الحديثة في مدرسة العلوم السياسية بباريس وفي السوربون فاستعان ببعض ‏العلوم التي جدّت حديثاً وفي ارسائه لأصول مصطلحاتها ‏باللغة العربية (علم الاحصاء ستاتسيق) ‏وعلم الاقتصاد السياسي (علم الثروة).‏

وفي بداية كتابه "المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها الأولى إلى الربع الثاني من القرن ‏الثامن عشر"، يذكر بدء اتصاله بموضوع ‏المسألة الشرقية منذ ان كان طالباً في الاستانة(39)، ‏إلى أن استكمل عنده الجمع والبحث، فبعث بما كتبه إلى الأهرام كي يطلع عليه ‏قراءة العربية ‏فيستفيدوا منه ويعلقوا عليه بآرائهم، وبعد أن يطرح الخالدي السؤال التالي "هل تحافظ أوروبا على ‏بقاء المملكة العثمانية ‏أو تتركها تنقرض وتزول؟". يعرف المسألة الشرقية بأنها "جدال سياسي ‏على استبقاء الممالك المحرومة أو تقسيمها، وربما أفضى ‏ذلك الجدال إلى قتال بين الدولة ‏العثمانية لسعيها في المحافظة على بقائها- ودول انكلترة وفرنسا واستراليا وإيطاليا العاملين على ‏‏حمايتها والمحافظة على كيانها لمنافعهم التجارية ولمنع توسع الدولة الروسية أو على أخذ كل ‏نصيب منها عند حصول الاتفاق بينهم". ‏أما عن أساس المسألة الشرقية فيعود إلى الأزمنة ‏المتوسطة "عن منافسة الشرق للغرب وطمع سكان كل منهما في الاستيلاء على ‏الآخر وكان ‏الدين أعظم مروّج لهذه المناسبة. ثم تسلسل في تتبع تاريخي للأحداث إلى أن قال: فمنذ أوجدت ‏الأتراك في أوروبا أو ‏بعبارة أخرى منذ دخل الاسلام أوروبا من الشرق، وجدت مسألتنا الشرقية"، ‏وانتقل إلى الحديث عن مواقع المسألة الشرقية أي ‏‏"المواقع التي تسبب حدوث ارتباكاتها السياسية ‏‏(البلقان والشرق الأوسط وساحل افريقيا الشمالي)، وتحدث عن قيمة هذه البلاد وأثرها ‏في ميدان ‏الحضارة ثم دخل مداخل تاريخية متشعبة فتحدث عن تاريخ الدولة العثمانية وتاريخ روسيا وعن ‏‏"المحرك لطمع روسيا"، ‏فأرجعه إلى سبين مادي وهو الافتقار إلى الثغور البحرية والثاني معنوي ‏حسي وهو "الادعاء بميراث قياصرة الروم". ثم فصّل ‏الحديث عن العلاقات الودية بين فرنسا ‏والبلاد الإسلامية وختمه بموضوع "التجارة الفرنساوية في الشرق" ويقصد من ذلك بيان ‏الأسباب ‏التي دعت فرنسا لأن تقف مع الدولة العثمانية ضد روسيا، وقد حاول في كتابه أن يفسر مواقف ‏الدول تفسيراً علمياً يوضح ‏المصالح والمنافع التي تتحكم في توجيه سياستها ويبرز العوامل ‏الاقتصادية التي كانت وراء تطور المسألة.

وفي كتابه "الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" ثم موضوعه على فصول قصيرة لها عناوين ‏‏(29 فصلاً) بحث في الأول تحديد المصطلح ‏فقال: ".. الانقلاب في اصطلاح المؤرخين تغير ‏مهم في حكومة الدولة وقلب في قوانينها وهو غير الثورة التي بمعنى العصيان ‏والخروج عن ‏الطاعة والقيام على الحكومة المشروعة، والفرق بين الانقلاب ‏Revolution‏ والثورة ‏Revote‏ كبير، فإن الثورة ‏كثيراً ما تضر بمنافع الأمة ومصالحها بخلاف الانقلاب فإنه مهما ‏آلم الأمة ورضرضها فهو يخطو بها خطوة في التقدم". ثم قدّم ثلاثة ‏فصول عن الاستبداد "يتولد ‏الانقلاب من الاستبداد، والاستبداد أسيوي وليس اسلامياً ومنبع الاستبداد قصر الملك أو الخلافة" ‏وبرأ ‏الاسلام من الوصمة التي حاول بعض الأجانب الصاقها به، ووضح أن الاسلام دين الحرية ‏والمساواة والديمقراطية وأن الاستبداد ‏طارئ دحيل على الاسلام، ثم أدار فصلاً خاصاً عن الفساد ‏في القصر العثماني، عنوانه "قصر السلطة العثمانية وتربية ولي العهد ‏والكامريلا ‏Camarilla‏" وهي كلمة اسبانية معناها جماعة المتنفذين في قصر الملك.وتتابعت الفصول ‏عن التذمر الذي بدأ ينتشر بين ‏بعض كبار رجال الدولة من الأحرار، وعن مشروعات ‏الاصلاحات التي تعاقبت منذ صدارة مصطفى رشيد باشا حتى الحرب بين ‏المابين وتركيا الفتاة، ‏ثم عقد فصلاً عنوانه "ظهور المابين وتفشي الفساد والاختلال"، وأورد كثيراً من الأمثلة، ثم جاءت ‏أربعة فصول ‏عن "اتحاد الأرمن والأتراك في طلب الحرية"، "ونهضة جمعية الاتحاد والترقي ‏وانتشارها"، "ونهاية الفساد والخراب في أحوال ‏الدولة" و "انفجار بركان الحرية وحصول الانقلاب ‏في 24 تموز". وختم البحث بخلاصة قال في آخرها: "فالفضل في حدوث ‏الانقلاب العثماني ‏بغير سفك دم ولا حصول اضطراب وقلاقل في المملكة انما هو للشريعة الاسلامية وما في ‏أحكامها من العدالة ‏الانسانية والمساواة في الحقوق".

وجاء في كتابه "الكيمياء عند العرب" من وحي مقالته في الهلال عن "برتلو" العالم الكيميائي ‏الفرنسي التي لعلها أثارته إلى مواصلة ‏البحث في تاريخ الكيمياء لمعرفة ما كان أحدثه العرب في ‏هذا الميدان وما كان لهم من فضل في نقله إلى أوروبا. وهو يبدأ بتمهيد يبين ‏أن غرضه من ‏الكتاب بيان ما كان لععرب من أثر حقيقي في خدمة العلم وكشف الحقائق للوصل بالبشرية إلى ‏درجة الكمال". ‏ وأقتبس أقوال بعض العلماء الافرنج الذين يقرون بفضل العرب في العلوم عامة، ثم عقد ‏فصلاً عنوانه "جابر" ويقصد به الكيمياء لأن ‏جابر بن حيان "إمام المدونين فيها" وقد بحث في ‏معنى كلمة (الكيمياء) واشتقاقاتها وأصلها وتبين موضوعات علم الكيمياء وتتبع ‏تاريخياً نشأة هذا ‏العلم عند الأمم المختلفة. ثم عقد فصولاً متتالية عن عدد من العلماء المسلمين كان لهم فضل ‏مشهود به على الكيمياء ‏فتتبع حياتهم وجهودهم وتأليفهم وما ذكرته عنهم الكتب العربية والكتب ‏الأجنبية مشيدة بفضلهم. ثم عقد فصولاً عن انتقال الكيمياء من ‏العرب إلى الافرنج وعن علماء ‏الأفرنج الذين أخذوا الكيمياء عن العرب في القرون الوسطى، وتحدث في فصول أخرى غن أمور ‏‏شتى من الكيمياء مثلاً عن "الأكسير وانقلاب المعادل بعضها لبعض" وعلم "العناصر وعالم ‏الأفلاك" ومذهبا ابن سينا والفارابي في ‏الكيمياء، وفي كتابه يشرح الخالدي موضوعاته شرح ‏المتصل بها العرف للبعض جوانبها ويستشهد بأقوال العلماء المسلمين ويتقبس ‏من أقوال العلماء ‏الأجانب.‏ ومع غلبة السرد التاريخي على كتب الخالدي، فإنه لم يكتفي بمجرد السرد وذكر الأحداث ‏المتعاقبة بل كثيراً ما كان يتوقف ليستخرج ‏منها مدلولاتها الاجتماعية أو النفسية أو الاقتصادية ‏ليتخذ كل ذلك أساساً لتفسير الأحداث وليربط المظاهر بأسبابها والنتائج بمقدماتها.‏

رائد الأدب المقارن

في دراسة قيمة قام بها د. حسام الخطيب(40) يعتبر أن دور الخالدي الأول والأساسي هو في ‏حقل معرفي مهم جداً هو الأدب ‏المقارن ويعد كتابه "تاريخ علم الأدب عند الأفرنج والعرب ‏‎ ‎‏ ‏وفيكتور هوغو" هو كتاب في الأدب المقارن الصميم ‏Propre‏ دون ‏أن يقلل هذا من قيمة ‏الدراسات التي تتبعت أراء الخالدي من أوائل الذين استعملوا النقد الأدبي ووضع في الهامش ‏مرادفها الفرنسي ‏‏Critique‏ ‏Litteraires‏. وبرأي د. حسام الخطيب أن الخالدي ‏كان مؤهلاً تأهيلاً معقولاً لأن يكون باحثاً مقارنياً، فقد كان يقول: "أنا ‏أذوق أدبي حسن واطلاع ‏جيد على الآداب العربية والأجنبية وكانت معرفته باللغات وافية وساعدته كذلك ظروفه الشخصية ‏من خلال ‏اقامته في فرنسا آواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين أي خلال الفترة التي بلغ فيها ‏تألق فرنسا الأدبي قمة من قممه العديدة. ‏وفي خلال اقامته تعرف على عدد من المستشرقين ‏الأوروبيين وذكرهم وذكر آرائهم في كتبه وربما كان لانتماء الخالدي إلى القدس ‏أثر في تطلعه ‏الواسع ونزعته المقارنية العالمية"(42)، هذا الحكم، يقول د. حسام الخطيب(43) لا يجوز أن يعني ‏اطلاقاً انكار ‏الجهود المشرفة لكتاب سبقوا الخالدي إلى الاتصال بالثقافة الأجنبية ومحاولة تقريبها ‏إلى القارئ العربي مستعينين أحياناً بعقد ‏المقارنات والموازنات الفكرية والأدبية والفنية مما قربهم ‏كثيراً من حق الأدب المقارن.‏

ولكن من خلال المقياس الخاص بالأدب المقارن يظهر روحي الخالدي في كتابه (تاريخ علم ‏الأدب) وعياً نظرياً لمفهومات التأثر ‏والتأثير وتبادل الأفكار والتقنيات مما لا نراه عند الكثيرين من ‏معاصريه، وبذلك يقترب من المفهوم الأصلي للأدب المقارن بوصفه ‏‏(تاريخ العلاقات الأدبية ‏الدولية) على نحو ما أكده أساتذة المدرسة الفرنسية الأوائل.

كان السبب الذي دعا الخالدي إلى تأليف كتابه وما رآه من احتفال الفرنسيين في 26 شباط ‏‏(فبراير) 1902 (باليوبيل القرني) أي ‏مرور قرن على ميلاد هوغو، فأراد التعريف بحياة الشاعر ‏وأدبه وتأليفه لما رأى من منزله لدى الأمم المختلفة فكتب مقالة هي أصل ‏الكتاب وهي التي ‏أوحت بفكرته، لأن حديثه عن فيكتور هوغو وطريقته الأدبية وتأثره بمن سبقه وتأثيره في غيره، ‏كل ذلك أوحى ‏للخالدي بالتوسع في الحديث عن الأساليب الأدبية المختلفة عند العرب وغيرهم ‏من الأمم وعن تأثير الأمم بعضها في بعض وخاصة ‏تأثير العرب عند الإفرنج. ‏

ويشير تصدير الكتاب أي الشرح المثبت على الغلاف بعد العنوان، إلى أن الكتاب يعتمد ‏على المقابلة والمقارنة القائمة على التأثر ‏والتأثير ‏‎]‎وهو يشمل على مقدمات تاريخية واجتماعية ‏في علم الأدب عند الافرنج ما يقابله من ذلك عند العرب ابان تمدنهم إلى ‏عصورهم الوسطى وما ‏اقتبسه الافرنج عنهم من الأدب والشعر في نهضتهم الأخيرة وخصوصاً على يد فيكتور هوغو‎[‎‏ ‏والخالدي ‏ينظر إلى الأدب بمعناه الواسع العام ولا يقصره على النثر الفني والشعر كما قصره ‏القدماء "فقد اشتمل على ضروب لم يعدها النقاد ‏القدامى أدباً كالأغاني والروايات والقصص ‏والتاريخ والسياسة والرحلة وهذا التعريف مأخوذ من التعاريف الغربية"(44)، ولا دراكه ‏إن البلاغة لا ‏تختص باللسان العربي وحده كما يؤمن بأن على الأدب "لا يكمل للمتبحر فيه إلا بعد أن ينظر ‏في أدب الأمم المتمدنة ‏ولو نظرة عامة يطلع بها على مجمل تاريخ أدبهم وعلى بعض ما ترجم ‏من مؤلفات المشاهير من كتبهم"، ولذا فقد حرص الخالدي في ‏كتابه على شرح المذاهب في الأدب ‏العربي، مع المقارنة باستمرار بين الأفكار والتقنيات والأساليب العربية والافرنجية، وتتوفر في ‏‏كتاب تاريخ علم الأدب سلسلة غنية من المقابلات العربية والافرنجية الفكرية والأدبية وأحياناً ‏المعتقدية تدل على توفر حسن البحث ‏المقارني والذوق النقدي، ومن الأمثلة "ما اقتبسه الافرنج ‏من قواعد الشعر العربي" في الفصل الرابع عشر، ويؤكد على أن الظروف ‏التاريخية والاجتماعية ‏والسياسية والثقافية أتاحت الفرصة لانتقال الأفكار والأساليب والتقنيات إلى الفرنجة في القرن ‏الحادي عشر ‏من خلال الاتصال العربي الفرنسي الحربي وغير الحربي، في شمال اسبانيا ‏وجنوب فرنسا، وهو يحرص على رسم خارطة للجو ‏السياسي والاجتماعي الذي دارت فيه ‏المبادلات الأدبية في تلك الفترة ويؤكد باستمرار على تأثير المعتقدات الدينية من الأساطير ‏‏والأغاني والتصرفات الاجتماعية في الأفكار والأساليب الأدبية. وهكذا نجح في رسم خطوط ‏كبرى لنواحي التماثل والاختلاف من ‏شأنها أن توحي بأن التجربة التاريخية الاجتماعية المتشابهة ‏تنتج أفكاراً وآداباً متشابهة(45)، كما استطاع أن يربط بين المستوى ‏اللغوي وبين المستوى ‏الحضاري للأمة فالأمة كلما ارتفعت في سلم الحضارة كان لسانها أبلغ وأدبها أوسع وأكمل.

وواضح أن توسع الخالدي في فيكتور هوغو ليس لأنه مثال خاص للتأثر بل لما يمكن أن ‏يقدمه شعر هوغو من تأكيد على التشابه بين ‏الأدبين العربي والافرنجي وكذلك على اللون ‏الخاص لهذا الشاعر مما يمكن أن يفيد منه القراء العرب ومن هنا كان وعده في المقدمة ‏بترجمة ‏مقطوعات لفيكتور هوغو ومقارنتها بمقطوعات للشعراء العرب، مثل المتنبي والمعري، وكان ‏واضحاً أنه يعتقد أن التجربة ‏الأدبية الغربية وتجربة شاعره المفضل فيكتور هوغو بوجه خاص ‏كفيلة بأن تغني الأدب العربي الحديث وأن تعطيه أنفاساً جديدة، ‏وقد بذل الخالدي جهداً لتقديم ‏ترجمات لمجموعة مختارة من أثار فيكتور هوغو في الشعر والنثر أورد بعضها كاملة وأورد مقاطع ‏‏مختارة من بعض آخر فكان من أوائل الذين فتحوا النافذة العربية على الآفاق الفرنسية الأدبية. ‏وكانت طريقته أن يستعرض قصائد ‏فيكتور هوغو وأعماله الفنية مستهلاً كل عمل بتعريف عام ‏يتمثله في ظروفه السياسية والاجتماعية ومنتقلاً بعد ذلك إلى التعليق عليه ‏وبسط ما يحويه من ‏الفوائد الفلسفية والأدبية ولا سيما من ناحية ما يوحيه من تشابه وخلاف في الشكل والمضمون ‏بينه وبين بعض ‏الآثار العربية.

وتبدو ترجمته ناجحة لأنها قائمة على التعمق في النص الأصلي وفهم مراميه فهو ليس ‏مترجماً حرفياً بل أديب متذوق ولنا أن نتصور ‏ما عاناه الخالدي في مجال ترجمة المصطلحات ‏الأجنبية الفنية والبلاغية، هذا الجهد الذي قدمه يضعه في مصاف رواد الترجمة ولا ‏سيما من ‏ناحية اصراره على فهم المصطلح الأصلي بلغته وشرح معنى هذا المصطلح جنباً إلى جنب مع ‏اقتراح الترجمة. ‏