روحي الخالدي
روحي الخالدي (1864- 1913): في بيت عريق من بيوتات العلم ولد بن ياسين بن محمد علي بن محمد بن خليل بن صنع الله الخالدي المقدسي(1)، وهو لا يعد من أعلام عرب فلسطين بل من أعلام الأمة العربية، ولكنه لم ينل من الاهتمام ما يستحقةه بوصفه من زعماء النهضه الفكرية والأدبية الحديثة.
وقد كتب لنفسه سيرة ذاتية نشرتها 1908 مجلة الأصمعي التي كانت تصدر في يافا... ولخصها جرجي زيدان ونشرها في مجلة الهلال(2)، ونشرت مجلة المنادى التي كانت تصدر في القدس 1908 سيرة مفصلة للخالدين نقلها ناشر كتاب "المقدسة في المسألة الشرقية"(3) وصدّر بها الكتاب(4).
وتنقسم سيرة المترجم إلى مراحل خمسة (5) مرحلة دراسته الابتدائية والثانوية ــ مرحلة دراساته العليا في الأستانة وباريس _ مرحلة عمله الأكاديمي في باريس مرحلة عمله قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في مدينة بوردو في فرنسا ـ مرحلة انتخابه نائباً عن القدس في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) في الأستانة وانتخابه نائباً لرئيس هذا المجلس.
ميلاده ونشأته
ولد روحي الخالدي في مدينة القدس في مجلة باب السلسة (أحد أبواب الحرم الشريف) عام1281هـ/ 1864م. وقد انتخب والده ياسين في عهد ولاية راشد باشا والي سورية وأحد الزعماء الاصلاحيين (بدأت ولايته 1866) لينوب عن أهل القدس في المجلس العمومي ببيروت، ثم تولى نيابة طرابلس الشام، وكان يصطحب أفراد أسرته حيثما اتجه، ولما عزل راشد باشا عن ولاية سورية عاد ياسين إلى القدس والتحق روحي بالكتاب ومدارس الحكومة الابتدائية، وكان عمره حينئذ نحو سبع سنوات.
ولما تولى مدحت باشا ولاية سورية 1878 أخذ يجمع من يثق باخلاصهم ونزاهتهم ويعيدهم إلى مراكزهم، وعين ياسين الخالدي قاضياً شرعياً في مدينة نابلس فالنحق ابنه روحي بالمكتب الرشدي فيها (يعادل الصفوف الثلاثة الأخيرة من المرحلة الابتدائية). وحين نقل قاضياً لطرابلس الشام التحق ابنه بالمدرسة الوطنية(6). وقبل نهاية هذه المرحلة بقليل صحب روحي عمه عبد الرحمن نافذ في زيارة إلى الأستانة حيث عرفه الأخير إلى شرم شيخ الاسلام الذي رغب في تشجيع الفتى على طلب العلم "فانعم عليه برتبة (رؤس بروسة) وهي أول درجة في سلم المراتب العلمية وكسوتها جبة زرقاء مطرزة بالقصب عند القبة وعمار عليها شريط مقصب وبلقب صاحبها ب(قدرة العلماء المحققين) ويعدّ مدرسا في مدرسة رابعة الخير في مدينة بروسة، ولم يكن روحي حينئذ يبلغ السادسة عشر وهو تلميذ وليس مدرساً وكان ذلك في 15 ربيع الأول 1297هـ/ 1880م.
تعليمه وعمله
وحين عاد روحي إلى القدس أخذ يحضر دروس المسجد الأقصى ويتلقى فيه علوم الفقه والتوحيد والحديث والنحو والصرف والمنطق والبيان والبديع، ويتردد على مدرسة الأليانس(7)، ومدرسة الرهبان البيض (الصلاحية)(8)، ليتقن اللغة الفرنسية وليطلع عن بعض جوانب الثقافات الدينية والأجنبية المختلفة. وأخذ يتصل بالمفكرين من سياح الفرنجة الوافدين على بيت المقدس ويلاحظ أمورهم "وسمع من بعضهم خطباً في تاريخ الأرض المقدسة وما كانت عليه من العمران فأدرك الفرق بين الشرق والغرب"(9)، ثم التحق بالمدرسة السلطانية في بيروت (تعادل الثانوية) وظل فيها إلى حين انحلالها(10)، فعاد إلى القدس وواصل حضور حلقات الدرس في المسجد الأقصى. وفي نهاية هذه المرحلة انتظم روحي في (سلك خدّام الحكومة في الدوائر العدلية)، وكان ذلك كما يبدو، بضغط من والديه، بينما كان روحي شديد الرغبة في متابعة دراساته في الأستانة عن طريق البحر، لكنه أرغم على العودة إلى القدس بعد أن وصل إلى ظهر الباخرة في يافا(11).
وعيّن روحي، بعيد عودته إلى القدس، "باش كاتب" لمحكمة غزة، وبدل أن يذهب إلى مقر عمله لجديد تمكن من الافلات والسفر إلى الأستانة حيث بدأ المرحلة الثانية من سيرته فدخل المكتب المُلْكي الشاهاني (وكان معهداً عالياً للعلوم السياسية والإدارة). ولم يقتصر على الكتب المقررة، بل أن نهمه إلى المعرفة دفعه إلى قراءة كتب سياسية تمنعها إدارة المدرسة، فناله العقاب المدرسي. وبقي في المكتب المُلْكي ستة أعوام 1887/1983، أخذ في نهايتها الشهادة العالية، وعند عودته إلى القدس عُيّن معلماً في "المكتب الإعدادي" فيها، لكنه "رأى في نفسه أنه أجدر بان يتولى وظيفة أعلى من هذه"، فرجع إلى الأستانة وطلب أن يعين "قائم مقاماً" لأحد الأقضية، ولكن عيل صبره وهو ينتظر صدورالأمر بتعيينه، وساءه ما لقي من مساعي المفسدين والجواسيس، فسافر إلى باريس وهو "لا يعرف أحداً فيها". ثم عاد إلى الأستانة وأخذ يتردد على مجالس السيد جمال الدين الأفغاني، وكان الأفغاني تحت رقابة مشددة من قبل أجهزة الأمن العثماني واشتدت المراقبة على الذين يحضرون مجلسه. فاضطر روحي نفسه إلى "هجر البلاد العثمانية" لفرنسا، ودخل مدرسة العلوم السياسية في باريس، وأتم دروسه في ثلاثة أعوام ثم التحق بدار الفنون العالية (السوربون) ودرس فيها فلسفة العلوم الاسلامية والاداب الشرقية، فاطلع على ضروب مختلفة من الثقافة الحديثة والمعارف العصرية، أما أهم الأستاذة الفرنسيين الذين يذكر فضلهم عليه في فهم "البيرفراندال" المتخصص والمحاضر في المسألة الشرقية، وشيخ التاريخ السياسي "البيرسورل Albert Sorel"" والمؤرخ ووزير المعارف السيد الفرد رامبو Alfred Rambaud والمستشرق اللغوي المتخصص في اللغة الحميرية هارتويغ ديرا بنورغ Hartwig Derenbourg والعالم الشهير بعلم الإحصاء ليفاسور Levasseur.
وعند نهاية دراساته الجامعية بدأت المرحلة الثالثة من سيرة الخالدي وهي مرحلة عمله الأكاديمي، فقد عين مدرساً في جمعية اللغات الاجنبية في باريس(12). وأخذ يعقد الندوات العلمية "قونفرانس"، وصار يدعي إلى إلقاء المحاضرات بالعربية وشرح المسائل الشرقية والاسلامية والعربية، ولعله أول من فعل ذلك في الجمعية من العرب، ودخل المسائل الشرقية والاسلامية والعربية، ودخل عضواً في مؤتمر المستشرقين المنعقد في باريس 1897 (كان قد بدا تعرّفه بالمستشرقين وهو طالب في السوربون وأصبح له بينهم نشاط علمي)، وأخذت الصحف تنشر مادة محاضراته، وقبلاً كانت تنشر مثل هذا لجمال الدين الأفغاني(13)، كما نشرت الصحف العربية مقتطفات من محاضراته وعدداً من مقالاته.
وتبدأ المرحلة الرابعة من سيرة الخالدي بعودته إلى الأستانة 1316/1989 حيث صدرت الإرادة السنية بتعيينه قنصلاً عاماً في مدينة بوردو وتوابعها، فرحبت به حكومة الجمهورية الفرنساوية ووضعت ثقتها فيه وكانت قد رفضت الكثيرين من الذين عينوا قبله لتلك القنصلية. وانتخب رئيساً لجمعية القناصل في تلك المدينة وعددهم ستو وأربعون فكان ينوب عنهم في الاحتفالات التي يتعذر وجودهم جميعاً ويستقبل رئيس الجمهورية وكبار الوزراء والعلماء عند مرورهم ببوردو. ولما أقيم المعرض البحري العام في بوردو 1907 لانقضاء مئة سنة لايجاد البواخر كان روحي بك من المشاركين في إقامته، وأهدته بلدية بوردو وإدارة المعهد تذكاراً جميلاً، ومنحته الحكومة الفرنساوية نيشان (نحلة المعارف) الذهبية ووسام فرقة الشرف (لجيون دونور) وكان في أثناء ذلك ينشر المقالات الوافية في بعض المجلات العلمية ويعقل امضاءه فيها أو يذكر فيها اسم (المقدسي) أما أهم الصحف والمجلات العربية التي نشرت له في لبنان ومصر فهي الأهرام والمؤيد وطرابلس الشام ومجلة الهلال ومجلة المنار(14)
بقي الخالدي في منصبه قنصلاً عاماً في بوردو نحو عشر سنوات (15) إلى حين إعلان الدستور 24 تموز 1908 فرجع إلى القدس ليبدأ المرحلة الخامسة والأخيرة من سيرته، وانتخبه أهل القدس نائباً عنهم في البرلمان العثماني (المبعوثان) في نوفمبر/ تشرين ثاني ثم أعادو انتخابه ثاني مرة نيسان (ابريل) 1912(17)، وفي مجلس النواب (المبعوثان) انتخب نائباً للرئيس، ولما حُلّ المجلس صيف 1912م، رجع الخالدي إلى القدس، ولكنه ما لبث بعد حين أن سافر مرة أخرى إلى الأستانة وكان سفره الأخير فقد توفي فيها 16 أغسطس آب 1913/1331هـ على أثر حمى تيفوئيد أصابته ولم تمهله إلا أربع أيام وقد بلغ من العمر خمسين عاماً.