فلسطين في العصور الكلاسيكية (333 ق.م-638م)
محتويات
فلسطين تحت الحكم الهيلينستي Hellenistic Period
سيطرة الإسكندر المقدوني Alexander The Great (356-323 ق.م(
لم يكد الإسكندر، الملقب بالكبير ابن فيليب المقدوني Philip، يبلغ عشرين عاماً حتى اعتلى عرش مقدونيا عام 336 ق.م. فجهز جيشاً ودربه على القتال وأعده بشكل جيد، وقاده عام 334 ق.م في حملة على الفرس لاحتلال الشرق الأدنى القديم.
بعد انتصار الإسكندر الحاسم على الملك الفارسي داريوس الثالث Darius III (335-331 ق.م) في معركة إيسوس Issus عام 333 ق.م، توجه إلى سوريا وفلسطين، حيث سيطر عليهما، وكان ذلك بداية خضوع القدس وفلسطين بأكملها للحكم الهيلنستي. وكان عدد سكان القدس عندما دخلها الإسكندر الكبير آنذاك حوالي 120 ألف نسمة.
توفي الإسكندر عام 323 ق.م في بابل متأثراً بإصابته بالملاريا، ولم يكن فرد من عائلته قادراً على خلافته، فابنه الوحيد ولد بعد وفاته، وكان شقيقه فيليب متخلفاً عقلياً. عندها انقسم قادة الإسكندر العسكريون الذين يُعرفون تاريخياً باسم "الخلفاء Diadochi"، وقتلوا ابنه وكل أقربائه الذين كان يمكن لهم المطالبة بوراثته، وكذلك المقربون إليه، ثم تفرغوا لمحاربة بعضهم بعضاً في صراعات منهمكة عرفت باسم (حروب الخلفاء)، بهدف اقتسام الإمبراطورية الهلنستية التي تأسست تحت قيادته. وما يهمنا هنا من ورثة الإسكندر الكبير شخصيتان اثنتان: سلوقس الأول (المظفر) Seleucus I (Nicator) (312-281 ق.م) مؤسس الدولة السلوقية في سوريا، وعاصمتها أنطاكيا، وبطليموس الأول (المنقذ) Ptolemy I (Soter) (323-285 ق.م) مؤسس الدولة البطليمية في مصر وعاصمتها الإسكندرية.
وقد اندلعت حروب خمس بين الدولتين السلوقية، من جهة، والبطليمية، من جهة أخرى، وذلك بغية الانفراد بالسيطرة على بلاد الشام (سوريا وفلسطين)، وقد عرفت هذه باسم الحروب السورية التي دامت حوالي اثنين وعشرين عاماً. وقد ذاقت فلسطين الأمرّين خلال هذه السنوات التي مرت ما بين وفاة الإسكندر الكبير ومعركة إبسوس Battle of Ipsus عام 301 ق.م (بين البطالمة والسلوقيين). فقد عبرتها الجيوش المتحاربة سبع مرات واحتلت بعض أجزائها ولو مؤقتاً، واقتحمت بيت المقدس مرات عدة.
أما فلسطين، فقد كانت بين هاتين القوتين المتصارعتين، والتي خضعت في نهاية المطاف للحكم البطليمي الذي شمل الفترة (منذ عام 301 ق.م وحتى عام 198 ق.م).
القدس تحت الحكم البطليمي والسلوقي (301- 166 "37" ق.م)
عندما تسلم بطليموس الأول السلطة، توجه نحو فلسطين وحاصر مدينة القدس، وواجه صعوبات كبيرة في إخضاعها، ثم علم أن اليهود لا يعملون في أيام السبت فهاجمها في ذلك اليوم، ودخلها، وسبى عدداً (يقال مئة ألف أسيراً!!) من أهلها، وأرسلهم إلى مصر. وأما الباقون في القدس، فقد أثقلهم بالضرائب. وقد حكم البطالمة حوالي مئة سنة، وبشكل عام كانت أوضاع السكان في فلسطين خلال هذه الفترة صعبة لأن البطالمة كانوا يفضلون المواطنين الأجانب على السكان المحليين، ومع ذلك فقد تمكن اليهود من الاحتفاظ بالإدارة الذاتية معظم الوقت.
وأطلق البطالمة على منطقة بلاد الشام اسم "إقليم بقاع سوريا- فينيقيا"، حيث أعادوا تقسيمها إدارياً. وأطلق على الأقسام الإدارية التي قسمت الولاية على أساس إبارخيات (واحدتها إدارية Eparchy)، وكانت هذه ستاً.
أما بالنسبة إلى القدس، فقد احتفظت بالحدود التي كانت لها من قبل (في العصر الفارسي). فقد شملت المنطقة الممتدة من منحدر جبال القدس غرباًً إلى نهر الأردن والبحر الميت شرقاً، ومن حدود السامرة (منطقة نابلس) شمالاً إلى خط يمتد شمال مدينة الخليل جنوباً، وكانت مدينة القدس العاصمة. كانت القدس بالإضافة إلى المدن الفلسطينية الأخرى تحت إشراف ملكي دقيق في الدولة البطليمية. ويديرها موظف يطلق عليه لقب ابيستاتيس Epistates يعينه الملك، والكاهن الأعلى هو المسؤول عن اليهود، لكنه لم يكن حاكماًً مستقلاً. وقد كان هناك موظف مسؤول عن إدارة المعبد تعينه السلطة الرسمية، وكان من المنتظر منه أن يتعاون مع الكاهن الأعلى، لكنه لم يكن تابعاً له.
خلال هذه الفترة حاولت جماعة من (يهوذا) توثيق علاقاتها مع جيرانها ومع السلطة الحاكمة في فلسطين. واستطاع يوسف بن طوبيا، أحد أبناء عائلة طوبيا اليهودية Tobiah الثرية، أن يلتزم (يضمن) ضرائب الملك في فلسطين من الملك بطليموس الثالث Ptolemy III Evergetes ( 246-222 ق.م). انتقلت عائلة طوبيا إلى القدس، وأصبحت وظيفة جباية الضرائب في البلاد تنتقل بالوراثة بين أبنائها، حتى نهاية العهد البطليمي. وتعلم أبناؤها اللغة اليونانية والعادات الهيلينية، وأخذوا يقلدون اليونانيين في حياتهم اليومية وفي أساليب البناء والفنون المعمارية. هكذا بدأ بعض اليهود تقليد الحضارة اليونانية المتطورة، وأخذ هؤلاء يسمون أولادهم بأسماء يونانية، وحتى مجلس الشيوخ سمي "غروسيا" Gerousia لكن هذا التقليد لم يكن يتناقض مع جوهر الديانة اليهودية.
وفي عام198 ق.م، استطاع أنطيوخوس الثالث السلوقي الكبيرAntiochus III Megas (the Great) (223-187 ق.م) التغلب على البطالمة بزعامة قائدهم سكوبس الأيتولي Scopas of Aetolia في معركة بانياس Battle of Panium، التي أسفرت عن استيلاء البطالمة على بلاد الشام، إذ أطلق عليها اسم استراتيغية Strategia (سوريا المجوفة وفينيقيا)، ثم أعلن تصريحاً خاصاً بسكان مدينة القدس تمثل بإعفائهم من الضرائب وإعطائهم حقوقهم في مجال حرية ممارسة الشعائر الدينية وذلك بسبب دعمهم له والتغلب على البطالمة في المعركة المذكورة سابقاً. وبفضل هذا التصريح، تمكن سكان مدينة القدس وخاصة اليهود منها من المحافظة على إدارتهم الذاتية، خاصة أن علاقتهم بجيرانهم كانت محدودة جداً، وأن قادتهم كانوا يمانعون دوماً الاختلاط بالأجانب.
وأجرى السلوقيون التعديلات في تقسيم الولاية الجديدة، تسهيلاً للإدارة. فقسمت ولاية سوريا وفينيقيا عام 198 ق.م إلى ثلاث وحدات إدارية استعمل لكل منها اسم "إبارخيا"Eparchy ، وكان على رأسها إبارخوس Eparchos، وهذه الوحدات هي: "إبارخيا السامرة" وقد ضمت إليها منطقة القدس ومنطقة الجليل ومدينة يافا. أما العاصمة، فكانت مدينة سبسطية بالذات. ثم كان هناك "إبارخيا أدوم" التي ظلت عاصمتها، على ما يبدو، مريسا "تل صندحانة". أما الوحدة الثالثة، بالنسبة إلى فلسطين، فقد كانت "إبارخيا الساحل" التي كانت تمتد من عقبة صور إلى حدود مصر، وقد ضم إليها قضاء أسدود "أزوتس Azotus" الفارسي-البطليمي، وأصبح يسمى قضاء يبنا "يمنيا- Jamnia ". إلا أن الأراضي التي كانت تخص يبنا وأسدود (والأراضي هذه كانت دوماً تتبع المدن ولا تخضع للإدارة العادية) وأراضي يافا كانت تفصل هذه الإبارخيا "الوحدة الإدارية" الساحلية إلى قسمين: القسم الجنوبي الذي كان يشمل منطقتي عسقلان وغزة، وما تبقى من أراضي يافا يتبع القسم الشمالي. أما دورا، فقد انتزعت من الإدارة العادية وأصبحت "قلعة ملكية". وكما كان ليافا ويبنا وأسدود أراضٍ خاصة بها، فقد كانت ثمة أراضٍ خاصة بكل من بيسان "سكيثوبوليس Scythopolis “ وعكا "بطوليمايس Ptolemyas" والسامرة.
ولما اشتدت الثورة المكابيّة- فيما بعد- وجد السلوقيون أنه يتعذر على إبارخوس أن يدير الأبارخيا الواسعة، ويتولى قيادة الآلة العسكرية ضد المكابيين، لذلك فصل الملك منطقة القدس وجعلها إبارخيا مستقلة. وكان أول إبارخوس عيّن فيها هو نيكانور Nicanor، وذلك في أواخر أيام أنطيوخوس الرابع Antiochus IV Epiphanes (175-164 ق.م)، وقد قتل في إحدى حملاته على بيت المقدس في عام 161 ق.م.
وكانت فلسطين ساحة حرب طيلة هذه الفترة، فقد كان من الصعب الحفاظ على الحدود الإدارية. فالمكابيون الذين أعلنوا أنهم دولة مستقلة كانوا يتطلعون إلى التوسع في النواحي المختلفة. لذلك فقد تمكنوا، في أوقات مختلفة، من احتلال مناطق في فلسطين (وحتى خارجها شرق الأردن). لكن المهم ليس الاحتلال فحسب، بل إن المكابيين (الحشمونيون) أرغموا سكان الجليل والأدوميين على اعتناق الدين اليهودي، وفرضوا الختان على الرجال. وقد فعلوا مثل ذلك مع بعض المدن، ومن كان يرفض ذلك كان يقتل أو ينفى، وكان يتم إسكان اليهود مكانهم.
بمثل هذه الأساليب يحاول حكام اليهود أن يهودوا شعب فلسطين، ولكن ذلك لم يتيسر لهم تماماً. أما المدن التي أَنزَل الحشمونيون فيها يهوداً، فقد أُخرجوا منها فيما بعد. وأما السكان، فليس لدينا ما يدل على أن الأدوميين كانوا يهوداً تماماً، فاتصالهم المباشر بالأنباط كان يؤدي إلى عكس النتيجة المرجوة. وقد كانت للبعض من الحكام المكابيين اتصالات بروما، عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهي القوة التي بدأت تظهر فيما بعد في الجزء الغربي من البحر المتوسط. ويبدو أن الاتصال كان حوالي عام 164 ق.م. ثم كانت هناك اتصالات أخرى خلال فترة حكم يوناثان عام 146 ق.م. وبعد ذلك ببضع سنين تم إتصال ثالث في أيام يوحنا هيركانوس الأول John Hyrcanus I (135-104 ق.م). وهكذا لما جاء الرومان إلى فلسطين كانت الصلات قائمة لكن موقف بومبي كان خارج هذا الإطار الذي صاغه يهود القرنين الثاني والأول قبل الميلاد. لقد قضى سكان منطقة "يهوذا" عشر سنين هادئة تحت حكم السلوقيين، وفي نهايتها تعرضت الدولة السلوقية لحروب خاسرة مع الرومان، حيث انتصروا على أنطيوخوس الثالث Antiochus III (223-187 ق.م) في معركة مغنيزيا Magnesia عام (190 ق.م)، ففرض الحكام السلوقيون ضرائب جديدة على رعاياهم. وفي هذه الآونة توفي الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث عام 187 ق.م، وتسلم الحكم من بعده ابنه الملقب أنطيوخوس الرابع.
وكان أنطيوخوس متحمساً للهيلينية وللحضارة الرومانية، وقد تأثر بهما تأثيراً كبيراً بسبب مكوثه سنين طويلة في روما، حيث أقام الإيفيبات Ephebate (مركز التدريب العسكري للشباب)، والملاعب الرياضية وميادين المصارعة والمعابد الفخمة والمسارح التي شاهدها في روما. ثم قرب إليه اليهود المؤيدين للحضارة الهيلينية، فعين ياسون Jason (175-172 ق.م) كاهناً أعلى. وكان ياسون قد دفع مقابل هذا التعيين مبلغاً من المال، كما وعد الملك بأن يقيم جمنازيوم Gymnasium (دار الرياضة) على نفقته الخاصة وبأن يسجل سكان مدينة القدس كمواطنين "أنطاكيين". وذلك بعد أن طرد أخاه الكاهن الأعلى أونياس الثالث إلى أنطاكيا، ثم ُقتل بعد ذلك. كانت تصرفات معتنقي الثقافة اليونانية والموالين لها تثير غضب عامة الشعب وتدفعهم نحو التمرد، خاصة جعل منصب الكاهن الأعلى منصباً يباع ويشترى بالمال وبموافقة الملك السلوقي.
وبالفعل، استغل سكان "يهوذا" فرصة انشغال الملك أنطيوخوس الرابع في الحرب ضد البطالمة، ملوك مصر، فقاموا بالتمرد والعصيان ضد منيلاوس Menelaus (172 -162 ق.م) الكاهن الأعلى الجديد الذي استطاع إقناع أنطيوخوس الرابع بتعيينه كاهناً أعلى بعد تجريد ياسون من منصبه ككاهن أعلى عام 172 ق.م. أرسل أنطيوخوس القائد أبولونيوس Apollonius إلى مدينة القدس ( كتاب المكابيين الأول، 3: 10-11)، حيث احتل المدينة وقتل ونهب وهدم الأسوار وبنى قلعة حقراAcra (تقع على تل منحدر يشرف على المدينة) وحشد فيها الجنود من الغرباء.
وقد أصبحت (حقرا) شاهداً عملياً على الوجود الهليني القوي في المدينة المقدسة. وأصبحت المدينة من ناحية عملية مستعمرة عسكرية، والذي نراه أن التدوين اليهودي لهذه الأحداث مبالغ فيه على ما جاء في سفري المكابيين الأول والثاني. وقد بلغ السيل الزبى في رأي المحافظين لما أقيم هيكل زيوس Zeus (كبير الآلهة اليونانية) في بيت المقدس سنة 167 ق.م.
فهاجم أنطيوخوس المدينة المقدسة وقتل المتمردين وأعاد إلى منيلاوس منصب الكاهن الأكبر. ولم يكتف بهذا، بل منح القدس رتبة "بولس Polis" أي مدينة هيلينية، وصادر أملاك اليهود، وانتقم منهم.
أمر أنطيوخوس الرابع بتنفيذ اومره بالإنتقام من اليهود. وكانت الشرارة لإندلاع الحرب في قرية موديعين شمال-غرب القدس عندما قامت القوات السلوقية بنصب مذبحاً وثنياً في وسط القرية، ورفض متتياهو (ماتاتياس) Mattathias(167/166 ق.م) بتنفيذ أوامر الملك السلوقي، حيث قتل أحد معتنقي الثقافة الهلنستية وهجمت جموع الشعب على فرقة الجنود السلوقيين، وقتلت أفرادها، وهدمت المذبح، وهرب ماتاتياس وأبناؤه إلى المناطق الجبلية.
وحين أشرف ماتاتياس على الموت عين ابنه يهودا المكابي Judah Maccabee (165-160 ق.م) قائداً عسكرياً.
اتبع اليهود حرب العصابات فكانوا يغيرون على المدن ليلاً، فيهدمون المذابح، ويحطمون التماثيل، ويختبئون في الجبال نهاراً.
وقد أحرز يهودا المكابي انتصارات عدة، أهمها انتصاره على قوة سلوقية كبيرة بقيادة أبولونيوس Apollonius كانت في طريقها من السامرة إلى القدس، وُقتل أبولونيوس في عقبة بيت حورون في شمال غرب القدس. وقد أثار هذا الانتصار غضب الملك السلوقي فأصدر أوامره لقائد الجيش بمحاربة اليهود.
وتوجه الجيش السلوقي إلى السامرة لمحاربة يهودا، وأقام معسكره بالقرب من عمواس إلى الشمال الغربي من مدينة القدس. وانتظر السلوقيون هجوم يهودا عليهم، ولكن انتظارهم طال دون جدوى. وعندما نفد صبرهم قرروا الهجوم على معسكر يهودا بشكل مفاجئ، لكن يهودا استغل بعدهم عن معسكرهم، وباغت الجنود الموجودين في المعسكر، وانتصر عليهم، واستولى على الأسلحة التي وجدها هناك، وبعد ذلك أشعل المعسكر. وعندما عاد القائد السلوقي ووجد معسكره قد التهمته النار هرب مع جنوده، وكان ذلك سنة 165 ق.م.
كما توجه يهودا ورجاله بعد انتصاره في عمواس نحو القدس واقتحمها. ولما توفي الملك أنطيوخوس الرابع عام 164 ق.م انتقلت السلطة الفعلية إلى ليسياس، القائد العسكري في أنطاكيا، إذ قرر الهجوم على القدس على رغم المصاعب التي واجهته في أنطاكيا لينقذ الجنود السلوقيين المحاصرين في حصن حقرا Acra. وأخيراً، انتصر ليسياس على جيش يهودا قي معركة بيت زكريا (قرب بيت صور، جنوب غرب القدس)، ودخل مدينة القدس، لكنه لم يفكر بالانتقام، بل على العكس، اقترح على يهودا عقد صلح بينهما.
وفي سنة 161 ق.م، قتل يهودا في معركة بالقرب من موقع قرية لاشع Elasa (10 كلم إلى الشمال من القدس)، وتسلم أخوه يوناثان Jonathan Maccabeus (160-143 ق.م) قيادة الجيش بدلاً منه.
ولقد حاول يوناثان أن يحقق استقلالاً لمملكة "يهوذا" مستعيناً بروما عدوة السلوقيين، تارة، وبانتهاز فرصة الحرب الأهلية دي بلو سيفيلي De Bello Civili في سوريا والنزاع على السلطة في أنطاكيا، تارة أخرى. ولكن هذه المحاولات التي دامت حوالي 17 سنة لم تنجح، وفي سنة 143 ق.م قبض على يوناثان إثر خديعة دبرها له أحد الحكام السلوقيين، وقتل هو ومرافقوه في مدينة عكا، وبعد مقتله تسلم زمام الأمور أخوه سمعان Simeon (143-135 ق.م) الذي دعا سكان "يهوذا" إلى الامتناع عن دفع الضرائب للملك، وأخذ يهاجم المدن الواقعة على الساحل، فاحتل بعضها، وشدد الحصار على حصن حقرا في القدس حتى أخضعه، وطرد السلوقيين منه.
وهكذا حقق سمعان الاستقلال لمملكة "يهوذا"، وذلك بموافقة الملك السلوقي ديمتريوس الثاني نيكاتور Demetrius II Nicator (139-145 ق.م). إلا أن أنطيوخوس السابع (139-129 ق.م) قام في السنوات ما بين (134-132 ق.م) بمحاصرة القدس، ولم يفلح في اختراق جدرانها. وعقدت معاهدة بينه وبين يوحنا هيركانوس الأول John Hyrcanus I (135-104 ق.م) نصت على أن يهدم الملك المكابي أجزاء من تحصينات مدينة القدس مقابل أن يكف الملك السلوقي آنذاك عن حصار المدينة واعتراف السلوقيين بمملكته.
قتل سمعان عام 135 ق.م (177 ق.م تقويم سلوقي)، واختار اليهود يوحنا هيركانوس الأول ابن سمعان كاهناً أكبر ورئيساً لـ "يهوذا"، وباشر يوحنا بتوسيع رقعة بلاده على حساب السلوقيين، مستغلاً ضعف السلطة السلوقية آنذاك.
احتل مدن السامريين وهيكلهم على جبل جرزيم بالقرب من نابلس، وسيطر على أرض الأدوميين ومادبا وأجزاء أخرى من شرق الأردن. وأيده كثيراً الفلاحين الذين فتحت أمامهم أراضٍ واسعة يستطيعون استغلالها.
ومن أهم أعماله مواجهة القوات السلوقية التي احتلت الولاية اليهودية، واضطرته للفرار إلى المعبد، حيث حوصر فيه، وخضع بعد ذلك للسلوقيين، ودفع لهم الجزية، ومقدارها خمسمائة تالنت فضي Talent. كما وافق على إزالة سور المعبد، وعلى إرسال قوات للمشاركة في الحملات السلوقية ضد الفرس (الفرثيون Parthians)، والاعتراف بسلطة السلوقيين على مقاطعة "يهوذا". ولكن، ما إن عادت الفوضى لتعصف بالدولة السلوقية حتى قام هيركانوس وجماعته بالاستقلال بمقاطعته عن السلوقيين وبدعم كامل من روما، ثم انطلق بعدها في حملات ضد بقية مقاطعات فلسطين والطوائف الأخرى حوالي عام 129 ق.م. ومن جهة أخرى، برزت عائلات غنية أصبحت مقربة من العائلة المالكة في المدينة المقدسة. وبعد موت يوحنا هيركانوس الأول تسلم الحكم ابنه أرسطوبولس الأول Aristobulus I (104-103 ق.م) الذي أعلن نفسه ملكاً على"يهوذا". وأرغم سكان الجليل العرب الإيطوريين Itureans على اعتناق الديانة اليهودية بالقوة. وبعد موته أصبح أخوه ألكسندر يانايوس Alexander Jannaeus (103-76 ق.م) ملكاً على "يهوذا".
انتهج الكسندر يانايوس سياسة توسعية، حيث تصادم معه الحارثة الثالث (87-62 ق.م)، ملك الأنباط، في مكان يقال له حديدة (Addida) إلى الشرق من يافا، ثم انسحب الحارثة بعد الاتفاق مع خصمه في شروط معينة. إلا أن الأكسندر يانايوس ردّ له الكيل بمثله، فهاجم المنطقة الواقعة شرق الأردن، وانتزع من يد الحارثة اثنتي عشرة قرية في تلك المنطقة، وبذلك تم الفصل عملياً بين دمشق وسائر الدولة النبطية في الجنوب (الخارطة رقم 2 توضح المناطق التي سيطر عليها يوحنا هيركانوس الأول). ويذكر المؤرخ يوسيفيوس عند بداية تضارب المصالح بين المكابيين والأنباط، وملكهم آنذاك الحارثة الثاني (100 ق.م). وكانت الدولة السلوقية حينئذ قد أخذت تدخل مرحلة ضعف وتقهقر، ما أغرى ألكسندر يانايوس بانتهاز الفرصة للتوسع، وجعل هدفه مدينة غزة، فاستغاث أهلها بحارثة لقوته ولقربه منهم، إذ كان الأنباط حينئذ قد بسطوا نفوذهم على منطقة النقب، وكانت غزة، إحدى الموانئ التي تنقل إليها المتاجر النبطية.
وعلى الرغم من أن حارثة وعد الغزّيين بالعون وشجعهم على المقاومة، فإنه لسبب أو لآخر تلكأ في مدّ يد العون لهم، فاستولى يانايوس على غزة ونهبها، لكنه لم يحتفظ بها طويلاً، إذ خفّ للمشاركة في حرب أهلية اشتعلت نارها في شمال فلسطين.
ومن أهم أعماله أنه قام بهدم المعابد الوثنية في المناطق التي يحتلها، ويشجع السكان على زراعة الأراضي. لذلك، انتعشت اقتصادات المدينة المقدسة وما حولها في عهد هذا الملك، وتم تصدير المنتوجات الزراعية مثل النبيذ والزيت والتمر والفواكه إلى مصر وسوريا وحتى وصلت إلى إيطاليا واليونان وإسبانيا. كما تم استيراد الأقمشة والجرار الفخارية والعطور والأدوات المعدنية من الخارج.
وفي حدود سنة 76 ق.م توفي يانايوس بعد أن أنهك جسمه الإغراق في الشرب، وأصيب بمرض يشبه الملاريا لازمه ثلاث سنوات. وورث الملك بعده زوجته سالومة ألكسندرا Salome Alexandra (76-67 ق.م) التي احتفظت بلقب ملكة. أما سلطة الكاهن الأكبر، فأعطتها لابنها هيركانوس الثاني Hyrcanus II (63-40 ق.م).
إلا أنه وفي عام 70 ق.م أخذ أرستوبولوس الثاني Aristobulus II (67-63 ق.م) السلطة من أخيه هيركانوس الثاني بالقوة، فقامت بين الأخوين حرب أهلية، وأخذ كل منهما يستنجد بدولة أجنبية من الدول المجاورة له ليتغلب على أخيه. فاستنجد هيركانوس بالملك النبطي الحارثة الثالث (87-62 ق.م)، حيث لجأ إلى مدينة البتراء مقر القصر الملكي النبطي، فانجده الحارثة، وأمده بجيش قوامه خمسون ألف مقاتل، وتغلب على خصمه وأخيه أرستوبولوس وجيشه، وحاصر مدينة القدس، وكاد يحتلها، لولا أن جيش روما الذي كان قد استنجد به أرستوبولوس جاء يقوده القائد العسكري الروماني بومبي Pompeius Magnus (106-48 ق.م)، وكان أكثر عدداً، فكان النصر حليفه. ودخل بومبي القدس منتصراً عام 63 ق.م.
وبهذا الفتح تم القضاء ليس على الحكم الهلنستي فحسب، بل وعلى الغطرسة المكابية، أيضاً. وما كان بومبي لينجح في هذه المهمة لولا أن البلاد كانت منقسمة على نفسها، وأن الفوضى كانت تجتاحها من أدناها إلى أقصاها (انظر خارطة رقم 3).
وخلاصة القول، عانت فلسطين في العصر الهلنستي الكثير من الاضطرابات والمشاكل والثورات والفتن والاضطرابات السياسية والحروب الدامية، ما كان له الأثر السيئ في تقدمها ورخائها. وظهرت الثقافة اليونانية، وانتشرت في القدس وفي جميع أنحاء فلسطين بشكل لافت للنظر، إذ امتزجت هذه الثقافة بسكان البلاد الأصليين، وأصبحت هناك علاقات اجتماعية بين المجتمعين الهلنستي والفلسطيني، وبخاصة فيما يتصل بالمصاهرة.
وانتشرت اللغة اليونانية انتشاراً أصبحت معه لغة البلاد الرسمية، ولغة العلم والمدارس. وأما اللغة التي كان يستعملها أهل البلاد الأصليين، فقد كانت يومئذ اللغة الآرامية (اللغة الشائعة) lingua franca. وقد ظلت الحال كذلك حتى تدمير القدس على يد القائد الروماني تيتس Titus (79-81) والإمبراطور هدريان Hadrian (117-138م). اقتبس سكان فلسطين الصناعات اليونانية، ولا سيما صناعة الفسيفساء التي انتشرت بكثرة في الأبنية، سواء أكانت هذه في المدن أم في القرى. وانتشرت الحضارة والثقافة اليونانية. فقد أسس اليونان المدارس، وبذلوا ما في وسعهم لينشروا آدابهم وأفكارهم ومبادئهم وتقاليدهم، وحتى معتقداتهم الدينية، وأصدروا النقود اليونانية ونشروها، وقد نقشت عليها رموز مختلفة للآلهة والألعاب الأولمبية، كما نقشت عليها صور الملوك والقادة. وأخيراً، انتشرت التجارة اليونانية. فقد أنشأوا المصارف (البنوك) واتخذوا السفاتج (البوالس)، فاقتبس ذلك عنهم أهل البلاد من سكان فلسطين.
اعداد
د. لؤي محمد أبوالسعود