«فلسطين في العصور الكلاسيكية (333 ق.م-638م)»: الفرق بين المراجعتين

من دائرة المعارف الفلسطينية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(أنشأ الصفحة ب'==فلسطين تحت الحكم الهيلينستي ‏Hellenistic Period== ===سيطرة الإسكندر المقدوني ‏Alexander The Great‏ (356-323 ق.م...')
 
سطر ١٢: سطر ١٢:
  
 
أما فلسطين، فقد كانت بين هاتين القوتين المتصارعتين، والتي خضعت في نهاية ‏المطاف للحكم البطليمي الذي شمل الفترة (منذ عام 301 ق.م وحتى عام 198 ق.م). ‏
 
أما فلسطين، فقد كانت بين هاتين القوتين المتصارعتين، والتي خضعت في نهاية ‏المطاف للحكم البطليمي الذي شمل الفترة (منذ عام 301 ق.م وحتى عام 198 ق.م). ‏
 
  
 
==القدس تحت الحكم البطليمي والسلوقي (301- 166 "37" ق.م)‏===
 
==القدس تحت الحكم البطليمي والسلوقي (301- 166 "37" ق.م)‏===
سطر ٩٨: سطر ٩٧:
 
==اعداد==
 
==اعداد==
 
د. لؤي محمد أبوالسعود
 
د. لؤي محمد أبوالسعود
 +
[[تصنيف: بنك معلومات القدس]]

مراجعة ١٠:٢٧، ٢٨ مايو ٢٠١٨

فلسطين تحت الحكم الهيلينستي ‏Hellenistic Period

سيطرة الإسكندر المقدوني ‏Alexander The Great‏ (356-323 ق.م‎(‎

لم يكد الإسكندر،‎ ‎‏ الملقب بالكبير ابن فيليب المقدوني ‏Philip، يبلغ عشرين عاماً حتى ‏اعتلى عرش مقدونيا عام 336 ق.م. فجهز جيشاً ودربه على القتال وأعده بشكل جيد، وقاده عام ‏‏334 ق.م في حملة على الفرس لاحتلال الشرق الأدنى القديم.‏

بعد انتصار‎ ‎الإسكندر الحاسم على الملك الفارسي داريوس الثالث ‏Darius III‏ (335-331 ‏ق.م) في معركة إيسوس ‏Issus‏ عام 333 ق.م، توجه إلى‎ ‎سوريا وفلسطين، حيث سيطر عليهما، ‏وكان ذلك بداية خضوع القدس وفلسطين بأكملها للحكم الهيلنستي. وكان عدد سكان القدس عندما ‏دخلها الإسكندر الكبير آنذاك حوالي 120 ألف نسمة.‏

توفي الإسكندر عام 323 ق.م في بابل متأثراً بإصابته بالملاريا، ولم يكن فرد من عائلته قادراً ‏على خلافته، فابنه الوحيد ولد بعد وفاته، وكان شقيقه فيليب متخلفاً عقلياً. عندها انقسم قادة ‏الإسكندر العسكريون الذين يُعرفون تاريخياً باسم "الخلفاء ‏Diadochi‏"، وقتلوا ابنه وكل أقربائه ‏الذين كان يمكن لهم المطالبة بوراثته، وكذلك المقربون إليه، ثم تفرغوا لمحاربة بعضهم بعضاً في ‏صراعات منهمكة عرفت باسم (حروب الخلفاء)، بهدف اقتسام الإمبراطورية الهلنستية التي تأسست ‏تحت قيادته. ‏ وما يهمنا هنا من ورثة الإسكندر الكبير شخصيتان اثنتان: سلوقس الأول (المظفر) ‏Seleucus I (Nicator)‎‏ (312-281 ق.م) مؤسس الدولة السلوقية في سوريا، وعاصمتها ‏أنطاكيا، وبطليموس الأول (المنقذ) ‏Ptolemy I (Soter)‎‏ (323-285 ق.م) مؤسس الدولة ‏البطليمية في مصر وعاصمتها الإسكندرية.

وقد اندلعت حروب خمس بين الدولتين السلوقية، من جهة، والبطليمية، من جهة أخرى، ‏وذلك بغية الانفراد بالسيطرة على بلاد الشام (سوريا وفلسطين)، وقد عرفت هذه باسم الحروب ‏السورية التي دامت حوالي اثنين وعشرين عاماً. وقد ذاقت فلسطين‎ ‎الأمرّين خلال هذه السنوات ‏التي مرت ما بين وفاة الإسكندر الكبير ومعركة إبسوس ‏Battle of Ipsus‏ عام 301 ق.م (بين ‏البطالمة والسلوقيين). فقد عبرتها الجيوش المتحاربة سبع مرات واحتلت بعض أجزائها ولو مؤقتاً، ‏واقتحمت بيت المقدس مرات عدة.

أما فلسطين، فقد كانت بين هاتين القوتين المتصارعتين، والتي خضعت في نهاية ‏المطاف للحكم البطليمي الذي شمل الفترة (منذ عام 301 ق.م وحتى عام 198 ق.م). ‏

القدس تحت الحكم البطليمي والسلوقي (301- 166 "37" ق.م)‏=

عندما تسلم بطليموس الأول السلطة، توجه نحو فلسطين وحاصر مدينة القدس، وواجه ‏صعوبات كبيرة في إخضاعها، ثم علم أن اليهود لا يعملون في أيام السبت فهاجمها في ذلك اليوم، ‏ودخلها، وسبى عدداً (يقال مئة ألف أسيراً!!) من أهلها، وأرسلهم إلى مصر. وأما الباقون في ‏القدس، فقد أثقلهم بالضرائب. ‏ وقد حكم البطالمة حوالي مئة سنة، وبشكل عام كانت أوضاع السكان في فلسطين خلال ‏هذه الفترة صعبة لأن البطالمة كانوا يفضلون المواطنين الأجانب على السكان المحليين، ومع ذلك ‏فقد تمكن اليهود من الاحتفاظ بالإدارة الذاتية معظم الوقت.

وأطلق البطالمة على منطقة بلاد الشام اسم "إقليم بقاع سوريا- فينيقيا"، حيث أعادوا ‏تقسيمها إدارياً. وأطلق على الأقسام الإدارية التي قسمت الولاية على أساس إبارخيات (واحدتها ‏إدارية ‏Eparchy‏)، وكانت هذه ستاً.

أما بالنسبة إلى القدس، فقد احتفظت بالحدود التي كانت لها من قبل (في العصر ‏الفارسي). فقد شملت المنطقة الممتدة من منحدر جبال القدس غرباًً إلى نهر الأردن والبحر ‏الميت شرقاً، ومن حدود السامرة (منطقة نابلس) شمالاً إلى خط يمتد شمال مدينة الخليل جنوباً، ‏وكانت مدينة القدس العاصمة. ‏ كانت القدس بالإضافة إلى المدن الفلسطينية الأخرى تحت إشراف ملكي دقيق في الدولة ‏البطليمية. ويديرها موظف يطلق عليه لقب ابيستاتيس ‏Epistates‏ يعينه الملك، والكاهن الأعلى ‏هو المسؤول عن اليهود، لكنه لم يكن حاكماًً مستقلاً. وقد كان هناك موظف مسؤول عن إدارة ‏المعبد تعينه السلطة الرسمية، وكان من المنتظر منه أن يتعاون مع الكاهن الأعلى، لكنه لم يكن ‏تابعاً له.

خلال هذه الفترة حاولت جماعة من (يهوذا) توثيق علاقاتها مع جيرانها ومع السلطة ‏الحاكمة في فلسطين. واستطاع يوسف بن طوبيا، أحد أبناء عائلة طوبيا اليهودية ‏Tobiah ‎‏ ‏الثرية، أن يلتزم (يضمن) ضرائب الملك في فلسطين من الملك بطليموس الثالث ‏Ptolemy III‏ ‏Evergetes‏ ( 246-222 ق.م). ‏ انتقلت عائلة طوبيا إلى القدس، وأصبحت وظيفة جباية الضرائب في البلاد تنتقل بالوراثة ‏بين أبنائها، حتى نهاية العهد البطليمي. وتعلم أبناؤها اللغة اليونانية والعادات الهيلينية، وأخذوا ‏يقلدون اليونانيين في حياتهم اليومية وفي أساليب البناء والفنون المعمارية. ‏ هكذا بدأ بعض اليهود تقليد الحضارة اليونانية المتطورة، وأخذ هؤلاء يسمون أولادهم ‏بأسماء يونانية، وحتى مجلس الشيوخ سمي "غروسيا" ‏Gerousia‏ لكن هذا التقليد لم يكن يتناقض ‏مع جوهر الديانة اليهودية. ‏

وفي عام‎198 ‎‏ ق.م، استطاع أنطيوخوس الثالث السلوقي الكبيرAntiochus III ‎Megas (the Great) ‎‏ (223-187 ق.م) التغلب على البطالمة بزعامة قائدهم سكوبس ‏الأيتولي ‏Scopas of Aetolia‏ في معركة بانياس ‏Battle of Panium، التي أسفرت عن ‏استيلاء البطالمة على بلاد الشام، إذ أطلق عليها اسم استراتيغية ‏Strategia‏ (سوريا المجوفة ‏وفينيقيا)، ثم أعلن تصريحاً خاصاً بسكان‎ ‎‏ مدينة القدس تمثل بإعفائهم من الضرائب وإعطائهم ‏حقوقهم في مجال حرية ممارسة الشعائر الدينية وذلك بسبب دعمهم له والتغلب على البطالمة في ‏المعركة المذكورة سابقاً. وبفضل هذا التصريح، تمكن سكان مدينة القدس وخاصة اليهود منها من ‏المحافظة على إدارتهم الذاتية، خاصة أن علاقتهم بجيرانهم كانت محدودة جداً، وأن قادتهم كانوا ‏يمانعون دوماً الاختلاط بالأجانب.‏

وأجرى السلوقيون التعديلات في تقسيم الولاية الجديدة، تسهيلاً للإدارة. فقسمت ولاية ‏سوريا وفينيقيا عام 198 ق.م إلى ثلاث وحدات إدارية استعمل لكل منها اسم "إبارخيا"‏Eparchy ‎، وكان على رأسها إبارخوس ‏Eparchos، وهذه الوحدات هي: "إبارخيا السامرة" وقد ضمت إليها ‏منطقة القدس ومنطقة الجليل ومدينة يافا. أما العاصمة، فكانت مدينة سبسطية بالذات. ثم كان ‏هناك "إبارخيا أدوم" التي ظلت عاصمتها، على ما يبدو، مريسا "تل صندحانة". أما الوحدة الثالثة، ‏بالنسبة إلى فلسطين، فقد كانت "إبارخيا الساحل" التي كانت تمتد من عقبة صور إلى حدود ‏مصر، وقد ضم إليها قضاء أسدود "أزوتس ‏Azotus‏" الفارسي-البطليمي، وأصبح يسمى قضاء ‏يبنا "يمنيا- ‏Jamnia‏ ". ‏ إلا أن الأراضي التي كانت تخص يبنا وأسدود (والأراضي هذه كانت دوماً تتبع المدن ولا ‏تخضع للإدارة العادية) وأراضي يافا كانت تفصل هذه الإبارخيا "الوحدة الإدارية" الساحلية إلى ‏قسمين: القسم الجنوبي الذي كان يشمل منطقتي عسقلان وغزة، وما تبقى من أراضي يافا يتبع ‏القسم الشمالي. أما دورا، فقد انتزعت من الإدارة العادية وأصبحت "قلعة ملكية". وكما كان ليافا ‏ويبنا وأسدود أراضٍ خاصة بها، فقد كانت ثمة أراضٍ خاصة بكل من بيسان "سكيثوبوليس ‏Scythopolis‏ ‏‎ “‎‏ وعكا "بطوليمايس ‏Ptolemyas‏" والسامرة.

ولما اشتدت الثورة المكابيّة‎-‎‏ فيما بعد‎-‎‏ وجد السلوقيون أنه يتعذر على إبارخوس أن يدير ‏الأبارخيا الواسعة، ويتولى قيادة الآلة العسكرية ضد المكابيين، لذلك فصل الملك منطقة القدس ‏وجعلها إبارخيا مستقلة. وكان أول إبارخوس عيّن فيها هو نيكانور ‏Nicanor، وذلك في أواخر ‏أيام أنطيوخوس الرابع ‏‎ Antiochus IV Epiphanes‏ (175-164 ق.م)، وقد قتل في إحدى ‏حملاته على بيت المقدس في عام 161 ق.م. ‏

وكانت فلسطين ساحة حرب طيلة هذه الفترة، فقد كان من الصعب الحفاظ على الحدود ‏الإدارية. فالمكابيون الذين أعلنوا أنهم دولة مستقلة كانوا يتطلعون إلى التوسع في النواحي ‏المختلفة. لذلك فقد تمكنوا، في أوقات مختلفة، من احتلال مناطق في فلسطين (وحتى خارجها ‏شرق الأردن). ‏ لكن المهم ليس الاحتلال فحسب، بل إن المكابيين‎ ‎‏ (الحشمونيون) أرغموا سكان الجليل ‏والأدوميين على اعتناق الدين اليهودي، وفرضوا الختان على الرجال. وقد فعلوا مثل ذلك مع ‏بعض المدن، ومن كان يرفض ذلك كان يقتل أو ينفى، وكان يتم إسكان اليهود مكانهم. ‏

بمثل هذه الأساليب يحاول حكام اليهود أن يهودوا شعب فلسطين، ولكن ذلك لم يتيسر لهم ‏تماماً. أما المدن التي أَنزَل الحشمونيون فيها يهوداً، فقد أُخرجوا منها فيما بعد. وأما السكان، ‏فليس لدينا ما يدل على أن الأدوميين كانوا يهوداً تماماً، فاتصالهم المباشر بالأنباط كان يؤدي ‏إلى عكس النتيجة المرجوة. ‏ وقد كانت للبعض من الحكام المكابيين اتصالات بروما، عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة، ‏وهي القوة التي بدأت تظهر فيما بعد في الجزء الغربي من البحر المتوسط. ويبدو أن الاتصال ‏كان حوالي عام 164 ق.م. ثم كانت هناك اتصالات أخرى خلال فترة حكم يوناثان عام 146 ‏ق.م. وبعد ذلك ببضع سنين تم إتصال ثالث في أيام يوحنا هيركانوس الأول ‏‎ John Hyrcanus ‎I‏ (135-104 ق.م). وهكذا لما جاء الرومان إلى فلسطين كانت الصلات قائمة لكن موقف ‏بومبي كان خارج هذا الإطار الذي صاغه يهود القرنين الثاني والأول قبل الميلاد.‏ لقد قضى سكان منطقة "يهوذا" عشر سنين هادئة تحت حكم السلوقيين، وفي نهايتها ‏تعرضت الدولة السلوقية لحروب خاسرة مع الرومان، حيث انتصروا على أنطيوخوس الثالث ‏Antiochus III‏ (223-187 ق.م) في معركة مغنيزيا ‏Magnesia ‎‏ عام (190 ق.م)، ففرض ‏الحكام السلوقيون ضرائب جديدة على رعاياهم. وفي هذه الآونة توفي الملك السلوقي أنطيوخوس ‏الثالث عام 187 ق.م، وتسلم الحكم من بعده ابنه الملقب أنطيوخوس الرابع.‏

وكان أنطيوخوس متحمساً للهيلينية وللحضارة الرومانية، وقد تأثر بهما تأثيراً كبيراً بسبب ‏مكوثه سنين طويلة في روما، حيث أقام الإيفيبات ‏Ephebate‏ (مركز التدريب العسكري للشباب)، ‏والملاعب الرياضية وميادين المصارعة والمعابد الفخمة والمسارح التي شاهدها في روما. ثم قرب ‏إليه اليهود المؤيدين للحضارة الهيلينية، فعين ياسون ‏Jason‏ ‏‎ ‎‏(175-172 ق.م) كاهناً أعلى. ‏ وكان ياسون قد دفع مقابل هذا التعيين مبلغاً من المال، كما وعد الملك بأن يقيم جمنازيوم‎ ‎‏ ‏Gymnasium‏ (دار الرياضة) على نفقته الخاصة وبأن يسجل سكان مدينة القدس كمواطنين ‏‏"أنطاكيين".‏‎ ‎‏ وذلك بعد أن طرد أخاه الكاهن الأعلى أونياس الثالث إلى أنطاكيا، ثم ُقتل بعد ‏ذلك.‏ كانت تصرفات معتنقي الثقافة اليونانية والموالين لها تثير غضب عامة الشعب وتدفعهم ‏نحو التمرد، خاصة جعل منصب الكاهن الأعلى منصباً يباع ويشترى بالمال وبموافقة الملك ‏السلوقي. ‏

وبالفعل، استغل سكان "يهوذا" فرصة انشغال الملك أنطيوخوس الرابع في الحرب ضد ‏البطالمة، ملوك مصر، فقاموا بالتمرد والعصيان ضد منيلاوس ‏Menelaus‏ (172 -162 ق.م) ‏الكاهن الأعلى الجديد الذي استطاع إقناع أنطيوخوس الرابع بتعيينه كاهناً أعلى بعد تجريد ياسون ‏من منصبه ككاهن أعلى عام 172 ق.م. ‏ أرسل أنطيوخوس القائد أبولونيوس ‏Apollonius‏ إلى مدينة القدس ( كتاب المكابيين ‏الأول، 3: 10-11)، حيث احتل المدينة وقتل ونهب وهدم الأسوار وبنى قلعة حقراAcra ‎‏ (تقع ‏على تل منحدر يشرف على المدينة) وحشد فيها الجنود من الغرباء. ‏

وقد أصبحت (حقرا) شاهداً عملياً على الوجود الهليني القوي في المدينة المقدسة. ‏وأصبحت المدينة من ناحية عملية مستعمرة عسكرية، والذي نراه أن التدوين اليهودي لهذه ‏الأحداث مبالغ فيه على ما جاء في سفري المكابيين الأول والثاني. وقد بلغ السيل الزبى في رأي ‏المحافظين لما أقيم هيكل زيوس ‏Zeus‏ (كبير الآلهة اليونانية) في بيت المقدس سنة 167 ق.م. ‏

فهاجم أنطيوخوس المدينة المقدسة وقتل المتمردين وأعاد إلى منيلاوس منصب الكاهن ‏الأكبر. ولم يكتف بهذا، بل منح القدس رتبة "بولس ‏Polis‏" أي مدينة هيلينية، وصادر أملاك ‏اليهود، وانتقم منهم. ‏


أمر أنطيوخوس الرابع بتنفيذ اومره بالإنتقام من اليهود. وكانت الشرارة لإندلاع الحرب في قرية ‏موديعين شمال-غرب القدس عندما قامت القوات السلوقية بنصب مذبحاً وثنياً في وسط القرية، ‏ورفض متتياهو‎ ‎‏(ماتاتياس) ‏‎ Mattathias‏(167/166 ق.م) بتنفيذ أوامر الملك السلوقي، حيث ‏قتل أحد معتنقي الثقافة الهلنستية وهجمت جموع الشعب على فرقة الجنود السلوقيين، وقتلت ‏أفرادها، وهدمت المذبح، وهرب ماتاتياس وأبناؤه إلى المناطق الجبلية. ‏

‏ وحين أشرف ماتاتياس على الموت عين ابنه يهودا المكابي ‏Judah Maccabee‏ ‏‏(165-160 ق.م) قائداً عسكرياً. ‏

اتبع اليهود حرب العصابات فكانوا يغيرون على المدن ليلاً، فيهدمون المذابح، ويحطمون ‏التماثيل، ويختبئون في الجبال نهاراً. ‏

وقد أحرز يهودا المكابي انتصارات عدة، أهمها انتصاره على قوة سلوقية كبيرة بقيادة‎ ‎أبولونيوس ‏Apollonius‏ كانت في طريقها من السامرة إلى القدس، وُقتل أبولونيوس في عقبة ‏بيت حورون في شمال غرب القدس. وقد أثار هذا الانتصار غضب الملك السلوقي فأصدر أوامره ‏لقائد الجيش بمحاربة اليهود. ‏

وتوجه الجيش السلوقي إلى السامرة لمحاربة يهودا، وأقام معسكره بالقرب من عمواس إلى ‏الشمال الغربي من مدينة القدس. وانتظر السلوقيون هجوم يهودا عليهم، ولكن انتظارهم طال دون ‏جدوى. وعندما نفد صبرهم قرروا الهجوم على معسكر يهودا بشكل مفاجئ، لكن يهودا استغل ‏بعدهم عن معسكرهم، وباغت الجنود الموجودين في المعسكر، وانتصر عليهم، واستولى على ‏الأسلحة التي وجدها هناك، وبعد ذلك أشعل المعسكر. وعندما عاد القائد السلوقي ووجد معسكره ‏قد التهمته النار هرب مع جنوده، وكان ذلك سنة 165 ق.م. ‏

كما توجه يهودا ورجاله بعد انتصاره في عمواس نحو القدس واقتحمها. ولما توفي الملك ‏أنطيوخوس الرابع عام 164 ق.م انتقلت السلطة الفعلية إلى ليسياس،‎ ‎القائد العسكري في أنطاكيا، ‏إذ قرر الهجوم على القدس على رغم المصاعب التي واجهته في أنطاكيا لينقذ الجنود السلوقيين ‏المحاصرين في حصن حقرا ‏Acra‏. وأخيراً، انتصر ليسياس على جيش يهودا قي معركة بيت ‏زكريا (قرب بيت صور، جنوب غرب القدس)، ودخل مدينة القدس، لكنه لم يفكر بالانتقام، بل ‏على العكس، اقترح على يهودا عقد صلح بينهما. ‏

‏وفي سنة 161 ق.م، قتل يهودا في معركة بالقرب من موقع قرية لاشع‎ Elasa ‎‏ (10 ‏كلم إلى الشمال من القدس)، وتسلم أخوه يوناثان ‏Jonathan Maccabeus‏ (160-143 ق.م) ‏قيادة الجيش بدلاً منه. ‏

ولقد حاول يوناثان أن يحقق استقلالاً لمملكة "يهوذا" مستعيناً بروما عدوة السلوقيين، تارة، ‏وبانتهاز فرصة الحرب الأهلية دي بلو سيفيلي ‏De Bello Civili‏ في سوريا والنزاع على السلطة ‏في أنطاكيا، تارة أخرى. ولكن هذه المحاولات التي دامت حوالي 17 سنة لم تنجح، وفي سنة ‏‏143 ق.م قبض على يوناثان إثر خديعة دبرها له أحد الحكام السلوقيين، وقتل هو ومرافقوه في ‏مدينة عكا، وبعد مقتله تسلم زمام الأمور أخوه سمعان ‏Simeon‏ (143-135 ق.م) الذي دعا ‏سكان "يهوذا" إلى الامتناع عن دفع الضرائب للملك، وأخذ يهاجم المدن الواقعة على الساحل، ‏فاحتل بعضها، وشدد الحصار على حصن حقرا في القدس حتى أخضعه، وطرد السلوقيين منه.‏

وهكذا حقق سمعان الاستقلال لمملكة "يهوذا"، وذلك بموافقة الملك السلوقي ديمتريوس ‏الثاني نيكاتور ‏Demetrius II Nicator‏ (139-145 ق.م). إلا أن أنطيوخوس السابع (139-‏‏129 ق.م) قام في السنوات ما بين (134-132 ق.م) بمحاصرة القدس، ولم يفلح في اختراق ‏جدرانها. وعقدت معاهدة بينه وبين يوحنا هيركانوس الأول ‏‎ John Hyrcanus I‏ (135-104 ‏ق.م) نصت على أن يهدم الملك المكابي أجزاء من تحصينات مدينة القدس مقابل أن يكف الملك ‏السلوقي آنذاك عن حصار المدينة واعتراف السلوقيين بمملكته.

قتل سمعان عام 135 ق.م (177 ق.م تقويم سلوقي)، واختار اليهود يوحنا هيركانوس ‏الأول‎ ‎ابن سمعان كاهناً أكبر ورئيساً لـ "يهوذا"، وباشر يوحنا بتوسيع رقعة بلاده على حساب ‏السلوقيين، مستغلاً ضعف السلطة السلوقية آنذاك. ‏

احتل مدن السامريين وهيكلهم على جبل جرزيم بالقرب من نابلس، وسيطر على أرض ‏الأدوميين ومادبا وأجزاء أخرى من شرق الأردن. وأيده كثيراً الفلاحين الذين فتحت أمامهم أراضٍ ‏واسعة يستطيعون استغلالها. ‏

ومن أهم أعماله مواجهة القوات السلوقية التي احتلت الولاية اليهودية، واضطرته للفرار ‏إلى المعبد، حيث حوصر فيه، وخضع بعد ذلك للسلوقيين، ودفع لهم الجزية، ومقدارها خمسمائة ‏تالنت فضي ‏Talent‏. كما وافق على إزالة سور المعبد، وعلى إرسال قوات للمشاركة في الحملات ‏السلوقية ضد الفرس‎ ‎‏ (الفرثيون ‏Parthians‏)، والاعتراف بسلطة السلوقيين على مقاطعة "يهوذا". ‏ولكن، ما إن عادت الفوضى لتعصف بالدولة السلوقية حتى قام هيركانوس وجماعته بالاستقلال ‏بمقاطعته عن السلوقيين وبدعم كامل من روما، ثم انطلق بعدها في حملات ضد بقية مقاطعات ‏فلسطين والطوائف الأخرى حوالي عام 129 ق.م. ومن جهة أخرى، برزت عائلات غنية أصبحت ‏مقربة من العائلة المالكة في المدينة المقدسة. ‏ وبعد موت يوحنا هيركانوس الأول تسلم الحكم ابنه أرسطوبولس الأول ‏Aristobulus I‏ ‏‏(104-103 ق.م) الذي أعلن نفسه ملكاً على"يهوذا". وأرغم سكان الجليل العرب الإيطوريين ‏Itureans‏ على اعتناق الديانة اليهودية بالقوة. وبعد موته أصبح أخوه ألكسندر يانايوس ‏Alexander Jannaeus‏ (103-76 ق.م) ملكاً على "يهوذا". ‏

انتهج الكسندر يانايوس سياسة توسعية، حيث تصادم معه الحارثة الثالث (87-62 ‏ق.م)، ملك الأنباط، في مكان يقال له حديدة ‏‎(Addida)‎‏ إلى الشرق من يافا، ثم انسحب الحارثة ‏بعد الاتفاق مع خصمه في شروط معينة. إلا أن الأكسندر يانايوس ردّ له الكيل بمثله، فهاجم ‏المنطقة الواقعة شرق الأردن، وانتزع من يد الحارثة اثنتي عشرة قرية في تلك المنطقة، وبذلك تم ‏الفصل عملياً بين دمشق وسائر الدولة النبطية في الجنوب (الخارطة رقم 2 توضح المناطق التي ‏سيطر عليها يوحنا هيركانوس الأول).‏ ويذكر المؤرخ يوسيفيوس عند بداية تضارب المصالح بين المكابيين والأنباط، وملكهم ‏آنذاك الحارثة الثاني (100 ق.م)‏‎.‎‏ وكانت الدولة السلوقية حينئذ قد أخذت تدخل مرحلة ضعف ‏وتقهقر، ما أغرى ألكسندر يانايوس بانتهاز الفرصة للتوسع، وجعل هدفه مدينة غزة، فاستغاث أهلها ‏بحارثة لقوته ولقربه منهم، إذ كان الأنباط حينئذ قد بسطوا نفوذهم على منطقة النقب، وكانت غزة، ‏إحدى الموانئ التي تنقل إليها المتاجر النبطية. ‏

وعلى الرغم من أن حارثة وعد الغزّيين بالعون وشجعهم على المقاومة، فإنه لسبب أو ‏لآخر تلكأ في مدّ يد العون لهم، فاستولى يانايوس على غزة ونهبها، لكنه لم يحتفظ بها طويلاً، إذ ‏خفّ للمشاركة في حرب أهلية اشتعلت نارها في شمال فلسطين.

ومن أهم أعماله أنه قام بهدم المعابد الوثنية في المناطق التي يحتلها، ويشجع السكان ‏على زراعة الأراضي. لذلك، انتعشت اقتصادات المدينة المقدسة وما حولها في عهد هذا الملك، ‏وتم تصدير المنتوجات الزراعية مثل النبيذ والزيت والتمر والفواكه إلى مصر وسوريا وحتى وصلت ‏إلى إيطاليا واليونان وإسبانيا. كما تم استيراد الأقمشة والجرار الفخارية والعطور والأدوات المعدنية ‏من الخارج. ‏

وفي حدود سنة 76 ق.م توفي يانايوس بعد أن أنهك جسمه الإغراق في الشرب، وأصيب بمرض ‏يشبه الملاريا لازمه ثلاث سنوات. وورث الملك بعده زوجته سالومة ألكسندرا ‏Salome ‎Alexandra‏ (76-67 ق.م)‏‎ ‎التي احتفظت بلقب ملكة. أما سلطة الكاهن الأكبر، فأعطتها لابنها ‏هيركانوس الثاني ‏Hyrcanus II‏ (63-40 ق.م).‏

إلا أنه وفي عام 70 ق.م أخذ أرستوبولوس الثاني ‏Aristobulus II‏ (67-63 ق.م) السلطة من ‏أخيه هيركانوس الثاني بالقوة، فقامت بين الأخوين حرب أهلية، وأخذ كل منهما يستنجد بدولة ‏أجنبية من الدول المجاورة له ليتغلب على أخيه. فاستنجد هيركانوس بالملك النبطي الحارثة الثالث ‏‏(87-62 ق.م)، حيث لجأ إلى مدينة البتراء مقر القصر الملكي النبطي، فانجده الحارثة، وأمده ‏بجيش قوامه خمسون ألف مقاتل، وتغلب على خصمه وأخيه أرستوبولوس وجيشه، وحاصر مدينة ‏القدس، وكاد يحتلها، لولا أن جيش روما الذي كان قد استنجد به أرستوبولوس جاء يقوده القائد ‏العسكري الروماني بومبي ‏Pompeius Magnus‏ (106-48‏‎ ‎‏ ق.م)، وكان أكثر عدداً، فكان ‏النصر حليفه. ودخل بومبي القدس منتصراً عام 63 ق.م.‏

وبهذا الفتح تم القضاء ليس على الحكم الهلنستي فحسب، بل وعلى الغطرسة المكابية، ‏أيضاً. وما كان بومبي لينجح في هذه المهمة لولا أن البلاد كانت منقسمة على نفسها، وأن ‏الفوضى كانت تجتاحها من أدناها إلى أقصاها (انظر خارطة رقم 3). ‏

وخلاصة القول، عانت فلسطين في العصر الهلنستي الكثير من الاضطرابات والمشاكل والثورات ‏والفتن والاضطرابات السياسية والحروب الدامية، ما كان له الأثر السيئ في تقدمها ورخائها. ‏وظهرت الثقافة اليونانية، وانتشرت في القدس وفي جميع أنحاء فلسطين بشكل لافت للنظر، إذ ‏امتزجت هذه الثقافة بسكان البلاد الأصليين، وأصبحت هناك علاقات اجتماعية بين المجتمعين ‏الهلنستي والفلسطيني، وبخاصة فيما يتصل بالمصاهرة.

وانتشرت اللغة اليونانية انتشاراً أصبحت معه لغة البلاد الرسمية، ولغة العلم والمدارس. ‏وأما اللغة التي كان يستعملها أهل البلاد الأصليين، فقد كانت يومئذ اللغة الآرامية (اللغة الشائعة) ‏lingua franca‏. وقد ظلت الحال كذلك حتى تدمير القدس على يد القائد الروماني تيتس ‏Titus‏ (79-81) والإمبراطور هدريان ‏Hadrian‏ (117-138م). ‏ اقتبس سكان فلسطين الصناعات اليونانية، ولا سيما صناعة الفسيفساء التي انتشرت بكثرة ‏في الأبنية، سواء أكانت هذه في المدن أم في القرى. وانتشرت الحضارة والثقافة اليونانية. فقد ‏أسس اليونان المدارس، وبذلوا ما في وسعهم لينشروا آدابهم وأفكارهم ومبادئهم وتقاليدهم، وحتى ‏معتقداتهم الدينية، وأصدروا النقود اليونانية ونشروها، وقد نقشت عليها رموز مختلفة للآلهة ‏والألعاب الأولمبية، كما نقشت عليها صور الملوك والقادة. وأخيراً، انتشرت التجارة اليونانية. فقد ‏أنشأوا المصارف (البنوك) واتخذوا السفاتج (البوالس)، فاقتبس ذلك عنهم أهل البلاد من سكان ‏فلسطين.‏

اعداد

د. لؤي محمد أبوالسعود