كنيسة القيامة
الموقع وأهميته
تقع كنيسة القيامة في وسط البلدة القديمة في القدس، وبالتحديد في الجزء الشمالي الغربي منها، في الحي المسيحي، ويحيط بمبنى الكنيسة مجموعة من المباني التاريخية والأثرية والتي تعود إلى فترات زمنية مختلفة بدءاً من العصر البيزنطي في القرن الرابع ميلادي ومروراً بمراحل زمنية لاحقة حتى الوقت الحاضر. وتعود أهمية وشهرة المبنى بسبب ذكره في كتاب العهد الجديد "الإنجيل" الذي يقدّم معلومات مهمة عن مكان صلب المسيح (حسب التقليد المسيحي)، إذ يروي بأنه المكان الذي كان يدعى الجمجمة (بالآرامية جلجثة). ولهذا الاسم تفسيرات كثيرة، وهو أن بهذا الموقع كان يتم إعدام للمجرمين، أطلق عليه بالجمجمة بسبب جماجم القتلى، ولأنّ التلّ يشبه شكل الجمجمة أو الرأس البشري. هذا بالإضافة إلى أنه المكان الذي صلب فيه المسيح وقتل ودفن هناك ثلاثة أيام قبل أن يصعد إلى السماء حسب ما هو مذكور في الإنجيل. كما ويعتقد بأنه مكان قبر آدم عليه السلام في هذه الكنيسة، تحت الجلجلة في الجهة الشرقية منها توجد مغارة يعتقد أنّها مكان قبر آدم.
تاريخ البحث الأثري
يعد الكابتن الانجليزي ويلسون C.Wilson، أحد أوائل الذين كتبوا عن البلدة القديمة في القدس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث قام بمعاينة ودراسة مبنى الكنيسة، بالإضافة إلى اكتشاف مباني معمارية أخرى في البلدة القديمة من بينها قوس ويلسون. إلا أن هذه الدراسة كانت سطحية وغير كاملة. وفي بداية القرن العشرين إبان الحرب العالمية الأولى قام بدارسة وتحليل عمارة مبنى الكنيسة كل من الراهب الفرنسي أبل A. Abel وفيسنت L.H. Vicent بهدف التوصل إلى معرفة الكنيسة الأصلية التي تعود إلى كل من قسطنطين الأول I Constantine (272-337م) وفترة جستنيان Justinian (527-565م). ولاحقاً قام هارفي W.Harvey في السنوات بين 1933-1934 بإجراء مسح أثري مماثل ودراسة عمارة مبنى الكنيسة. كما أجريت مسوحات أثرية مشابهة في السنوات ما بين 1960-1969 وفي السبعينيات من القرن العشرين وذلك من أجل فهم بعض العناصر المعمارية والأثرية للكنيسة وإجراء سلسلة من المجسات الإختبارية تحت أساسات الكنيسة بإشراف كوربو V. Corbo وكواسنون C. Couäsnon وآخرون وذلك قبل انجاز عمليات الترميم والإصلاحات على مبنى الكنيسة من قبل الجالية المسيحية.
هذا وقد كشفت الحفريات التي أجريت في موقع المبنى عن شتى الآثار التي كانت محتجبة هنا وهناك ووفرت معرفة أفضل لتاريخ المكان ومراحله المتعاقبة. وعمل الترميم على أن تكون مختلف الأقسام أقرب ما تكون من صورتها الأصلية وأن تكون كنيسة القيامة جديرة حقاً بأقدس مكان مسيحي في العالم. التطور التاريخي للمبنى
تعود أولى المباني التي شيدت على نفس مكان كنيسة القيامة إلى فترة حكم الإمبراطور الروماني هدريان Hadrian (117-136م)، حيث أمر ببناء قبة على ستّة أعمدة فوق الجلجلة وكرسها لخدمة الإله فينوس Venus والآلهة عشتار (وهي الآلهة التي نزلت إلى الجحيم للبحث عن الإله تموز لتحرره) في محاولة منه للقضاء على فكرة نزول المسيح إلى الجحيم في هذا الموضع بالذات. وبنى هدريان فوق القبر هيكلاً آخراً للآلهة الوثنية. ولم يبقى في القدس سوى جماعة مسيحيّة من أصل وثني يعرف منها اسم مطرانها مرقص Marcus. رغم أنّ هذه الجماعة كانت تكرم أماكن مقدسة كثيرة لكنها لم تفكر في تبديل موضع قبر المسيح وذلك لأنها كانت تكرم تلك التي غطتها في ذلك الحين هياكل هدريان وبقيت تلك الذكرى حتى فترة حكم قسطنطين (272-336م). وعندما عقد المجمع المسكوني الأول في مدينة نيقيا Nicaea عام (325م) دعا أسقف القدس مكاريوس Macarius قسطنطين إلى تدمير الهيكل الوثني للبحث عن قبر المسيح. وهكذا فإن الهيكل الذي كان يهدف إلى القضاء على موقع القبر أدّى في حقيقة الأمر إلى الحفاظ عليه. ولم يبن قسطنطين شيئاً فوق الجلجلة. أمّا القبر المقدس فنظف من الأتربة وشيد قسطنطين فوقه بازيليكا Basilica ، وقد باشرت الأعمال أمه القديسة هيلانة Helena عام 325م وانتهي العمل بها عام 336م، حيث استغرق العمل بها حوالي 11 سنة. وهنا لابد من الحديث عن خارطة مادبا الفسيفسائية التي تعود للقرن السادس ميلادي، حيث يظهر على هذه الخارطة بالإضافة إلى مباني أخرى للمدينة مخطط لكنيسة القيامة.
هذا وقد أضر الغزو الفارسي عام 614-6ه/ 628م كثيراً بالأماكن المقدسة في فلسطين، حيث أعاد الراهب والبطريرك موديستوس Modestus 10ه/632-12ه/634م إصلاح كنيسة القيامة وترميمها. ويذكر الحاج أركولفو Pilgrim Arculf الذي زار القدس عام 49ه/670م، أي بعد دخول العرب إلى المدينة، كيف أن الحجر الذي سدّ به باب القبر قد تحطمت أجزاء كثيرة منه إثر الغزو الفارسي. وقد بنيت فوق الجلجلة كنيسة وكرست المغارة تحت الجلجلة لآدم. هذا ولم يمس الفتح العربي عام 16ه/638م القبر المقدس بسوء وتمتع المسيحيون بالحرية الدينية التزاماً من قبل المسلمين بتطبيق العهدة العمرية. ويرتبط التاريخ الإسلامي بالقدس عموماً وبأماكن العبادة المسيحية بتاريخ فتحها زمن عمر بن الخطاب سنة 16ه/638م. وقد أعطى الخليفة المسلم للنصارى أمانا لأنفسهم ولكنائسهم ولم يلحقها منه أي أذى ، بل أنه رفض أن يصلي في كنيسة القيامة حيث حضرت الصلاة وهو فيها لئلا يحذو حذوه المسلمون ويصلون فيها، وشيد بالقرب منها مسجداً سمى مسجد عمر.
وخلال الحكم العباسي، وعندما اندلعت ثورة المبرقع اليماني، حيث أشارت بعض المصادر التاريخية إلى محاولات جرت لحرق كنيسة القيامة، لكن بطريرك القدس يوحنا السادس (223ه-228ه/842-838م) استطاع دفع مبالغ مالية كي يمنع ذلك.
كما وشهدت المدينة اضطرابات بين المسيحيين واليهود عام 325ه/936م، أحرق اليهود في أثنائها مبنى الكنيسة. وفي عهد الخليفة العباسي المأمون رمم بناء كنيسة القيامة عام 201ه/817م. ولاحقاً سمح الخليفة هارون الرشيد للملك شارلمان بإرسال بعثه إلى القدس للحصول على امتيازات معينة في القدس. وهذا ما حصل حيث أرسل بطريرك القدس بمفتاح الكنيسة إلى شارلمان وراية المدينة.
وأحرقت الكنيسة وسقطت قبتها في عهد الإخشيد سلطان مصر عام 353ه/965م وجرت محاولات كثيرة لإعادة بناء القبة حيث بنيت في عام 369ه/980م.
وأمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بهدم كنيسة القيامة وذلك بكتاب وجهه إلى واليه بالرملة باروخ التركي اليهودي الذي أسلم وهدمت عام 399ه/1009م وهدمت كنائس أخرى. ولكن بعد الضجة التي حدثت على اثر هذا العمل قام أمير العرب في فلسطين بن الجراح بالاحتجاج واعتراض طريق باروخ الذي كان متوجهاً من مصر إلى الشام لاستلام ولايتها وما أثاره ذلك في نفس الحاكم وأخافه وعاد وأمر ببناء الكنيسة من جديد وقامت الكنيسة على الصورة الحالية منذ ذلك التاريخ 410ه/1020م.
ويجب الإشارة إلى أن حالة الفقر التي عاشها أهل الذمة حالت دون إتمام بناء الكنيسة إلى أن جاء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله عام 426ه/1035م وسمح للنصارى ببناء الكنيسة من جديد، حيث تم إنجاز البناء عام 439ه/1048م، وذلك بعد ما تعرضت القدس لهزة أرضية عام 425ه/1033-1034م هدمت أساسات كنيسة القيامة.
وفي عام 492ه/1099م دخل الصليبيون مدينة القدس وقرروا إعادة بناء الكنائس القديمة المتهدمة (عام 543ه/1149م)، بل وإنشاء مبنى ضخم يحوي داخله جميع الأبنية الأساسية، وبخاصة مكان الجلجلة والقبر المقدس.
وعندما قام صلاح الدين بتحرير القدس عام 582ه/1187م شار عليه البعض ممن حوله في قيادة الجيش بهدم الكنسية حتى لا يبقى حجة للغرب الأوروبي لغزو البلاد وقتل العباد بحجة الكنيسة إلا أنه رفض ذلك وآثر الإقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن أمن أهل الذمة، وأغلق الكنيسة ريثما تهدأ الأوضاع ومن ثم أعاد فتحها.
وفي عهد قايتباي عام 884ه/1480م سمح للنصارى بإصلاح قبة كنيسة القبر المقدس كما أن سلاطين المماليك لم يسمحوا بالتعدي على دور العبادة الخاصة بالنصارى بل سمحوا لهم بممارسة عباداتهم بحرية تامة إلا في بعض الأوقات التي كانت تتعرض فيها البلاد الإسلامية لغزوات الصليبية والتي كانت أساساً كنوع من الرد على هذه الغزوات وكضغط سياسي على البابوية والغرب عموماً لتحقيق هجماتهم على البلاد الإسلامية.
وكانت الدولة العثمانية قد أصدرت في 02/08/1852م ما يسمى بالوضع الراهن للأماكن المقدسة وبه جددت ما كانت أعلنته سنة 1118ه/1707م بشأن ما لبعض الطوائف المسيحية من الحقوق في الأماكن المقدسة-ومن جملتها كنيسة القيامة-وأداء العبادة فيها.
وفي كنيسة القيامة دير للرهبان الفرنسيسكان (اللاتين) Franciscans الذين يخدمون في الكنيسة. ويقع الدير شمالاً حيث كانت قديماً الدار البطريركية. وكان الرهبان حتى سنة 1286ه/1870م يعيشون في دير مظلم. فتوصل فرنسيس يوسف الأول إمبراطور النمسا إلى الحصول على إذن لهم ببناء دير صغير أضيفت إليه طبقة جديدة عام 1386ه/1967م.
وينتسب الرهبان الفرنسيسكان إلى القديس فرنسيس الأسيزي St. Francis of Assisi (577ه/1182م-622ه/1226م) الذي نشأ وعاش في أمبريا من إيطاليا. وكان قد جاء إلى القدس سنة 615ه/1219م وبعث إلى هناك ببعض رهبانه وطلب من السلطان الملك الكامل الأيوبي أن يبقوا في الشرق ويزوروا القيامة. فظلوا بعض سقوط المملكة الصليبية يحرسون الأماكن المقدسة. وفي عام 733ه/1333م سمح لهم السلطان الملك الناصر بسكنى كنيسة القيامة. وبعد ذلك بقليل، أي سنة 742ه/1342م، وافق البابا كليمنتس السادس Clement VI على وجود الفرنسيسكان في الكنيسة على أن يكونوا حراس الأراضي المقدسة باسم الكاثوليك.
وعندما دخلت فلسطين تحت الحكم العثماني عام 921ه/1516م، بقي الفرنسيسكان في الكنيسة ورمموها مرتين، الأولى عام 962ه/1555م، والثانية عام 1131ه/1719م. وللرهبان الفرنسيسكان اليوم حصة كبيرة في كنيسة القيامة وهم المسئولون عن تنظيم القداديس الكثيرة التي تقام فيها يومياً بحضور أفواج الحجاج القادمين من جميع أنحاء الأرض.
وكان قد سمح لرجال الدين البيزنطيين بعد فتح العثمانيين للقسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453م زيارة فلسطين. وبعد الفتح العثماني لبلاد الشام بقليل عين على القدس بطريرك يوناني يدعى جرمانوس Germanus (940ه/1534م-986ه/1579م)، وهو الذي أسس "أخوية القبر المقدس" التي يعد أعضاؤها حراس الأراضي المقدسة باسم العالم الأرثوذكسي. كما وعمل على التوسع في الكنيسة.
وبطريركية الروم الأرثوذكس في القدس والدير المجاور قريبان من كنيسة القيامة. وكان الموضع مركز ملوك القدس أيام الصليبيين. ويعود البناء إلى أزمنة مختلفة. وللرهبان الذين يخدمون في الكنيسة مساكن في نفس القيامة. وإلى ذلك فعند ساحة القيامة شرقاً دير هو دير القديس إبراهيم الذي اشتروه سنة 1070ه/1660م من الأحباش وأكملوه نحو عام 1101ه/1690م على كنيسة قديمة تعرف بكنيسة الرسل.
ولما دب الحريق في الكنيسة سنة 1222ه/1808م توصل الروم الأرثوذكس إلى الانفراد بترميم أكبر قسم من كنيسة القيامة بموجب مخططاتهم. فبنيت بشكلها الذي عليه الآن. ولهم اليوم حصة فيها. ومنها محور الكنيسة المعروف "بنصف الدنيا". أما الأرمن الأرثوذكس ولهم بعض المساكن في كنيسة القيامة، وحصة ثالثة في كنيسة القيامة ومنها قسم الرواق الذي يشرف على القبر المقدس وكنيسة القديسة هيلانة. وقد بدأ توسعهم في كنيسة القيامة منذ القرن السابع عشر الميلادي، وكانت آخر مرحلة منه عام 1244ه/1829م.
وتأتي بعد ذلك الطوائف التي لها مكانة ثانوية في كنيسة القيامة وأولها الأقباط الأرثوذكس ولهم مسكن في الكنيسة. وأما ديرهم وكنيستهم الكبرى المعروفان بدير وكنيسة القديس أنطونيوس فيقومان خارج كنيسة القيامة بالقرب منها حيث ترى بقايا واجهة الكنيسة التي شادتها هيلانة، وحيث كان دير قانونيي القبر المقدس أيام الصليبيين. وقد بناهما الأسقف باسيليوس Basilius الحادي عشر بعد عام 1266ه/1850م. وللأقباط في كنيسة القيامة معبد صغير بنوه هناك ملاصقاً للقبر المقدس عام 946ه/1540م ثم جدد بعد حريق سنة 1222ه/1808م. هذا وقد تصدعت الكنيسة سنة 1249ه/1834م اثر الزلزال الذي حدث في القدس في القرن السابع عشر، ورممت الكنيسة أيضا آخر مره 1285ه/1869م. إلا أن زلزال سنة 1345ه/1927م كان الأقوى. فقد هدد قبة الكنيسة الأرثوذكسية الكاثوليك بالدمار ولما لم يستطع الحاكم الإنجليزي الحصول على موافقة الطوائف الثلاث التي ترعى الكنيسة قام بإجراء بعض أعمال التقوية والدعم التي لم ترتكز على أساس جيد.
وأخيراً، يقيم السريان الأرثوذكس الصلاة كل أحد في معبد للأرمن يقوم في حنية القبر المقدس الغربية. هذه هي أديار كنيسة القيامة. وقد أجمعت الأديار الثلاثة الكبرى (دير الفرنسيسيين (اللاتين)، والروم الأرثوذكس، والأرمن) على ترميم مبنى كنيسة القيامة سنة 1379ه/ 1960.
وفي كانون أول عام 1414ه/ 1994م اتفق رؤساء الطوائف الثلاث على القيام بأعمال ترميم قبة القبر المقدس، حيث أعدّ التصاميم الفنان الأمريكي آرا نورمارت Ara Normart . وقد تولّت البعثة البابوية في فلسطين الإشراف على الأعمال، حيث حصلت على ثقة الطوائف الثلاث بفضل عدم محاباتها واحترامها للجميع. وقد دشنت القبة في احتفال مهيب عام 1417ه/1997.